زرّ البنطال: محنة العلوي بين هشاشة العدالة وتواطؤ الذاكرة

بقلم: المحامي أحمد عبد الرحيم
تنويه: الآراء الواردة في هذا المقال تعود إلى كاتبها ولا تعبّر بالضرورة عن موقف منصة رادار سوريا أو توجهاتها التحريرية.
في عالم لا تزال تسوده خرافة العدالة، وتُزيَّن فيه الشعارات الفارغة مثل “الإنسان أولًا”، يظهر أحيانًا تفصيل صغير, كزرّ بنطال, ليكشف عُري الحقيقة. تفصيل يبدو تافهًا في لحظة رفاه، لكنه يطفو على السطح حين تغيب القوانين، وتنهار الدول، ويُترك الإنسان وحيدًا في مواجهة مصيره العاري.
زرّ… أنقذ رجلاً
كان الملازم هلموت شميت مجرد رقم في آلة الحرب الألمانية. لم يكن يحمل هالة القادة، ولا جموح الفاتحين، لكنه كان جنديًا يعرف كيف يتمسّك بالحياة.
في نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت ألمانيا في أسوأ حالاتها، فقد شميت كل ما يشبه النظام. لم يبقَ من زيه العسكري سوى زرٌّ في بنطاله. ومع ذلك، حين تمزق معطفه، لم يتردد في خياطة ذلك الزرّ فيه. لم يكن الزرّ مقاومةً للبرد فحسب، بل محاولة بدائية لترميم الإحساس بالكرامة، بهوية رجل لم يُهزم بالكامل بعد.
كان الزرّ، في أحد وجوهه، وعدًا نفسيًا بأن ما تبقى من النظام القديم يمكن إعادة ترتيبه. وربما لم يكن يعلم، وهو يحدّق في عيني العاصفة، أن هذا الزرّ الصغير سيرتبط لاحقًا بنهضته الشخصية، وبصعوده إلى قمة الهرم السياسي في بلاده، ليصبح مستشارًا لألمانيا، وأحد أبرز الأسماء في إعادة بناء ما دمرته الحرب.
لقد كان الزرّ، بلا مبالغة، نقطة انطلاق نحو التاريخ.
وحبل… خنق طفلًا
بعد نحو ثمانين عامًا، وفي بقعة جغرافية أخرى لم تكن طرفًا في تلك الحرب، لكن حروبها الخاصة لم تهدأ يومًا، كان هناك طفل يُدعى إبراهيم شاهين. وُلد في الساحل السوري، في قرية نائية، لعائلة فقيرة لا تملك ما يكفي لشراء زرٍّ لبنطاله. كانوا يربطونه له بحبل.
إبراهيم لم يكن جنديًا، لم يكن لديه معطف، لم يحمل سلاحًا، ولا عرف السياسة، ولا قرأ التاريخ. كان فقط يحلم… أن يكبر، أن يرسم، أن يذهب إلى المدرسة، أن يكون.
لكن ذلك لم يكن مسموحًا له.
في أحد الأيام، اعترضه مسلّحون تابعون لتنظيم طائفي، في زقاق ضيق من قريته الصغيرة. سألوه عن اسمه، ثم عن طائفته. لم يتلعثم، لم ينافق، لم يكذب. قال: “أنا علوي”.
ولم يحتاجوا أكثر من ذلك.
طلقة واحدة.
سقط الحبل. سقط البنطال.
وسقط معه إبراهيم، بكل ما فيه من براءة، وكل ما كان يمكن أن يكونه.
بين الزرّ والحبل: فجوة العدالة
ما الذي جعل زرًّا يُنقذ رجلاً في ألمانيا، بينما لم يُمنح طفل في سوريا حتى شرف امتلاك زرّ؟
ما الذي سمح لذلك الجندي بالارتقاء إلى مصافّ القادة، بينما قُتل الطفل لمجرد انتمائه لطائفة؟
هل العدالة انتقائية؟ أم أنها ببساطة غير موجودة؟
في عالم “ما بعد الحداثة”، حيث يُحتفى بالمساواة وتُرصّع المنابر بعبارات حقوق الإنسان، لا تزال العدالة مشروطة: بالجغرافيا، بالهوية، باللغة، بالتوقيت.
كان شميت في المكان الصحيح، في الزمن الصحيح، محاطًا بمنظومة ستعيد إنتاجه بعد الحرب.
أما إبراهيم، فكان في المكان الخطأ، في الزمن الخطأ، محاطًا بحطام دولة، وجماعات، وخراب.
الزرّ لم يكن مجرد قطعة قماش.
كان رمزًا للانتماء إلى منظومة ترى الإنسان وتدافع عنه.
أما الحبل، فكان رمزًا لكل الذين يُتركون لمصيرهم، دون حماية، دون تاريخ، دون ذاكرة.
التاريخ يكتب نفسه… بمن اختاره
دخل شميت كتب التاريخ، خُلد اسمه، نُحت له تمثال.
أما إبراهيم؟ فلا أحد يذكره سوى أمه… وربما هذه المقالة.
ويا للمفارقة: الطفل الذي رُبط بنطاله بحبل، كان يمكن أن يكون طبيبًا، قائدًا، رسامًا، أو حتى مستشارًا.
لكنه قُتل قبل أن يُمنح الفرصة. قُتل لأنه لا ينتمي إلى طائفة “مقبولة”، ولا إلى منطقة “محظية”، ولا إلى تاريخٍ قابل لأن يُروى.
العدالة بوصفها رفاهية نخبوية
كثيرون يتحدثون عن العدالة بوصفها قيمة مجردة، نظرية، مثلى.
لكن الواقع يُظهر أنها – في هذا العالم – رفاهية لا تُمنح إلا لمن تحميهم الدولة، وتؤطرهم الرواية، ويحتضنهم الإعلام، ويتبناهم التاريخ.
أما من وُلدوا على هامش الخرائط، فلا مكان لهم في كتب المدرسة، ولا في نشيد الوطن، ولا حتى في نشرات الأخبار.
هؤلاء يُقتلون بصمت.
ولا يطالب بهم أحد.
خاتمة: حين يُصبح الزرّ أكثر عدالة من القانون
زرٌّ واحد أنقذ رجلاً وصنع منه قائدًا.
وحبلٌ واحد لم يُمسك ببنطال طفل، فتركه وحيدًا في مواجهة رصاصة.
الفرق لم يكن في القماش، بل في المعنى.
في المعنى الذي تمنحه دولةٌ لحياة مواطنيها، والمعنى الذي تسلبه أخرى.
فهل سيأتي يوم يُمنح فيه إبراهيم زرّه؟
لا زرّ القماش، بل زرّ الكرامة، زرّ الحماية، زرّ الفرصة.
ربما لا.
لكننا نكتب… علّ الكتابة تكون زرًّا صغيرًا في معطف الذاكرة،
لعلّه يُدفئ هذا العالم يومًا ما.
ملاحظة: كتبت هذه المادة بالتعاون مع الأخ العزيز الدكتور أكرم نعسان، رئيس أطباء قسم الطوارئ في ألمانيا.
هل ترغب بتصميم صورة غلاف مرافقة لهذا المقال؟