سگڤان جونسون –
في مشهدٍ لم يحمل جديدًا سوى إعادة تدوير الماضي تحت لافتات براقة، انطلق في دمشق ما يُسمى بـ”مؤتمر الحوار الوطني السوري”، تحت ذريعة إرساء أسس سوريا الجديدة، فيما الواقع يُشير إلى محاولة لفرض أمر واقع أحادي، تُعاد صياغته وفق مقاسات ضيقة لمجموعة تحاول الاستحواذ على القرار السياسي والعسكري في البلاد. هذا المؤتمر، الذي أقيم على عجل، لم يكن سوى استعراض سياسي، حيث غُيبت عنه القوى الفاعلة، واحتُكر حضور المشاركين وفق أسس الولاء، لا وفق معايير التعددية أو التمثيل الحقيقي لمكونات المجتمع السوري.
منذ عقود، جُبلت السياسة في سوريا على منطق الإقصاء، وصُممت أنظمة الحكم فيها وفق مبدأ الحزب الواحد، والقرار الواحد، والإرادة المطلقة للسلطة. واليوم، رغم تغير الوجوه وتبدل الخطابات، إلا أن الجوهر بقي ذاته، حيث تسعى القيادة الجديدة إلى إعادة إنتاج الحكم بنفس الأساليب القديمة، وإن غلفته بشعارات أكثر لمعانًا حول “الاستقرار والمصالحة”. ولكن، كما كان متوقعًا، لم يكن المؤتمر سوى إعادة إحياء لذات الذهنية التي تقوم على مركزية القرار، واحتكار القوة، وإسكات الأصوات المخالفة، فيما يُمنح الاعتراف فقط لمن يرضى بأن يكون تابعًا ضمن المعادلة السياسية الجديدة.
افتتح أحمد الشرع المؤتمر بخطاب حماسي، أراد له أن يكون لحظة تأسيسية لمرحلة جديدة، لكنه في جوهره لم يكن سوى استعادة لأسلوب الخطابات العسكرية التي طالما ميّزت الأنظمة الشمولية. تحدث عن “تحرير سوريا لنفسها بنفسها”، متجاهلًا الدور الفعلي لمختلف القوى والتيارات التي قاتلت وساهمت في إسقاط النظام السابق، بل ولم يأتِ حتى على ذكر أبرز الفاعلين السياسيين والعسكريين على الأرض.
وضع الشرع خارطة طريق بدا واضحًا أنها قائمة على إملاءات مسبقة، حيث شدد على “توحيد الفصائل المسلحة”، دون أن يحدد ما إذا كان هذا التوحيد سيتم من خلال توافق وطني شامل، أم وفق سياسات الدمج القسري تحت سلطة مركزية تتجاهل تعقيدات المشهد السوري. لكن الأخطر من ذلك، كان تأكيده على أن “سوريا لا تقبل القسمة”، وهو تعبير يحمل في طياته إنكارًا متعمدًا لواقع تعدديّ معقد، وتهديدًا غير مباشر لكل المكونات التي طالبت منذ سنوات باللامركزية كإطار لإدارة شؤونها. المؤتمر الذي أراد منظموه تصويره على أنه جامعٌ لكافة السوريين، عكس في حقيقة الأمر إقصاءً واضحًا للقوى الأكثر تأثيرًا في البلاد. غاب عنه ممثلو قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، رغم أنها القوة التي هزمت داعش وفرضت استقرارًا أمنيًا في جزء كبير من سوريا، كما تم تجاهل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، التي تدير مناطق تضم ملايين السوريين من العرب والكُرد والسريان والآشوريين والتركمان.
ولم يكن هذا التغييب عفويًا، بل كان جزءًا من سياسة ممنهجة لفرض رؤية ضيقة للمرحلة القادمة، عبر استبعاد كل من لا يخضع للسلطة المركزية التي تحاول القيادة الجديدة فرضها. كما تعرض المجلس الوطني الكردي للتهميش، حيث أصدر بيانًا شديد اللهجة، اعتبر فيه المؤتمر بمثابة إلغاء متعمد لحق الكُرد في الشراكة الوطنية، متهمًا المنظمين بإعادة إنتاج عقلية الحكم الشمولي. الآشوريون والسريان، الذين يشكلون جزءًا أساسيًا من النسيج السوري، لم يكونوا أيضًا ضمن الحضور، في استمرار لنهج تغييب المكونات غير العربية عن دوائر صنع القرار. كذلك، لم يكن هناك تمثيل للعشائر العربية الفاعلة في شمال وشرق سوريا، والتي لطالما لعبت دورًا محوريًا في التوازنات الاجتماعية والسياسية في البلاد.
لم يكن التهميش مقتصرًا على المكونات غير العربية فقط، بل امتد أيضًا إلى الطائفة العلوية التي، رغم سقوط النظام السابق، لا تزال تحمل إرثًا سياسيًا واجتماعيًا يعكس تأثيرها في المعادلة السورية. ومع ذلك، فإن المؤتمر تجاهل أي تمثيل حقيقي لها، مما يعكس توجهًا واضحًا لتفكيك نفوذها الذي تراكم خلال عقود، في محاولة لإعادة توزيع مراكز القوى وفق أسس جديدة تخدم أجندة السلطة الحالية. أما الدروز، الذين لطالما كانوا عاملًا مؤثرًا في المشهد السياسي، فقد تم تحجيم تمثيلهم بشكل صارخ، في سياق يتماشى مع سياسة إضعاف المناطق التي ترفض الخضوع لقرارات مركزية غير متفق عليها. جبل العرب، الذي كان دائمًا رمزًا للمقاومة السياسية، وجد نفسه خارج الحسابات، رغم مطالبته المتكررة بتمثيل أكثر عدالة يراعي خصوصيته الثقافية والاجتماعية.
من بين المظاهر الصادمة التي حملها المؤتمر، كان الفصل التام بين الرجال والنساء، حيث تم عزل الجنسين في جلسات منفصلة ومنع أي اختلاط بينهما، ما يعكس ذهنية محافظة متشددة، لا تعترف بدور المرأة كشريك حقيقي في صياغة مستقبل البلاد. في مشهد بدا وكأنه مستوحى من الأنظمة الأكثر تطرفًا، تم التعامل مع الحضور وفق تصنيف جندري يقيد دور المرأة السياسي، ويحجم مشاركتها في النقاشات الحاسمة التي ستحدد شكل الحكم الجديد. لم يكن العزل مقتصرًا على الرجال والنساء فقط، بل امتد أيضًا إلى مختلف القوى السياسية والجماعات المشاركة، حيث تم منع أي تفاعل مباشر بين التيارات المختلفة، وتم فرض قيود صارمة على تبادل النقاشات بين المجموعات، ما جعل المؤتمر أقرب إلى محاضرات تلقينية، بدلًا من أن يكون ساحة حقيقية للحوار الوطني. في ظل هذه القيود، لم يتمكن الحضور من مساءلة أي من الشخصيات المنظمة، أو مناقشة القضايا العالقة، ما يجعل التوصيات النهائية للمؤتمر أقرب إلى قرارات مفروضة مسبقًا، لا تعكس تطلعات جميع الأطراف.
هذا الإقصاء المنهجي يثير تساؤلات جدية حول مدى جدية هذا المؤتمر في تحقيق التوافق الوطني، أم أنه مجرد عملية تجميلية لإعادة إرساء سلطة استبدادية بقناع جديد. لم يكن الإقصاء الداخلي هو المشكلة الوحيدة في المؤتمر، بل إن عزله عن السياق الدولي كان مؤشرًا إضافيًا على أنه لا يحظى بأي شرعية حقيقية خارج دائرته الضيقة. لم يتم إرسال دعوات رسمية للدبلوماسيين الدوليين، ولم تشارك الأمم المتحدة في أي ترتيبات له، فيما بدا أنه تجاهل مقصود من المجتمع الدولي لمؤتمر لا يحمل في طياته أي بوادر لحل سياسي حقيقي.
هذا التجاهل الدولي يعكس إدراك القوى الإقليمية والدولية أن هذا المؤتمر لن يغير شيئًا في الواقع السوري، ولن يكون سوى محاولة لفرض رؤية أحادية دون إشراك جميع الأطراف الفاعلة. في ظل استمرار العقوبات الدولية، والعزلة السياسية المفروضة على دمشق، يبدو أن هذا المؤتمر لن يكون له أي تأثير يُذكر على مسار المفاوضات الدولية، ولا على جهود إعادة الإعمار، أو إعادة تأهيل سوريا في المشهد الدبلوماسي العالمي.
في نهاية المطاف، لا يمكن بناء دولة جديدة بأساليب الماضي، ولا يمكن إعادة إعمار سوريا عبر إقصاء مكوناتها الأساسية وإعادة إنتاج الاستبداد بوجوه جديدة. أي مشروع سياسي لا يرتكز على التعددية والعدالة والمساواة مصيره الفشل، وأي محاولة لفرض واقع بالقوة لن تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات والصراعات. إن استمر هذا النهج، فستجد سوريا نفسها أمام دورة أخرى من الاضطرابات، حيث يُعاد إنتاج القمع تحت مسميات مختلفة، فيما يبقى الشعب السوري، بكل مكوناته، هو الضحية الأولى لهذه السياسات العرجاء.