آراء

إقليم كردستان العراق وملف الأكراد سوريا: خطاب جديد يكشف التحولات السياسية

رادار سوريا |  نور الحسين كاتبة ومحللة سياسية
في الأسابيع الأخيرة، شهد الخطاب السياسي لمسؤولي إقليم كردستان العراق تحولًا لافتًا في موقفه تجاه القضية الكردية في سوريا، ويعكس هذا التحول إعادة تموضع استراتيجيًا أكثر من كونه مجرد تعديل لغوي أو دبلوماسي. لم يكن موقف أربيل تجاه أكراد سوريا “روج آفا” يومًا واضحًا بشكل مباشر، إذ كان يتسم دائمًا بالحذر الممزوج بالدعم الضمني. لكن التصريحات الأخيرة من قادة الإقليم تكشف عن تحول أكبر، يتمثل في تجنب أي ارتباط رسمي بمشروع الحكم الذاتي الكردي في سوريا، والتركيز على إعادة ترتيب الأولويات السياسية بما يخدم مصالح أربيل الإقليمية، ويجنبها أي صدام غير محسوب مع الفاعلين الإقليميين، وخاصة تركيا.

هذا التغير لا يقتصر على انتقاء المفردات بعناية، بل يبدو أنه يعبر عن إعادة صياغة جذرية للرؤية السياسية لأربيل بشأن مستقبل الأكراد في سوريا. فبينما كان يُنظر إلى إقليم كردستان العراق في السابق على أنه جهة قادرة على لعب دور داعم لـ”روج آڤا”، يبدو الآن أنه يفضل النأي بنفسه عن أي ارتباط بهذا المشروع، سواء لأسباب سياسية تتعلق بالعلاقات مع أنقرة ودمشق، أو لأسباب تتصل بمصالحه الداخلية وتجنب خلق منافس كردي آخر في المنطقة.

هذا التحول في الخطاب يثير تساؤلات جوهرية حول موقف أربيل من المشروع الكردي في سوريا: هل هو تكتيك سياسي مؤقت هدفه استرضاء تركيا والجهات الإقليمية، أم أنه يعكس تغييرًا جذريًا في استراتيجيتها تجاه الأكراد في سوريا؟ وهل تسعى أربيل إلى إعادة تعريف دورها في المعادلة الإقليمية عبر النأي بنفسها عن “روج آڤا”، أم أن الأمر يتعلق بضغط خارجي فرض عليها اتخاذ موقف أكثر تحفظًا؟ في ظل توازنات جيوسياسية متغيرة، قد يكون هذا التحول أكثر من مجرد موقف سياسي عابر، بل جزءًا من استراتيجية أوسع لإعادة ترتيب الأولويات في سياق إقليمي ودولي معقد.

في مقابلة تلفزيونية حديثة، صرّح وزير الخارجية العراقي الأسبق والقيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني، هوشيار زيباري، بأن تجربة إقليم كردستان العراق مرت بمراحل عديدة قبل أن تصل إلى الفيدرالية، وأنه ليس بالضرورة استنساخ هذه التجربة في سوريا. هذا التصريح، رغم أنه قد يبدو تأكيدًا على خصوصية كل تجربة سياسية وفق ظروفها الخاصة، إلا أنه يحمل في طياته إشارة واضحة إلى أن أربيل لا ترى في مشروع “روج آڤا” نموذجًا يمكن نسخه أو تطبيقه في السياق السوري، سواء بسبب الاختلافات السياسية العميقة بين الحالتين، أو بسبب التعقيدات الإقليمية التي تجعل تكرار تجربة الحكم الذاتي الكردي في سوريا أمرًا غير وارد وفق المعطيات الحالية.

جاء هذا الموقف بعد سنوات من الدعم غير المعلن الذي قدمته أربيل للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، سواء عبر قنوات دبلوماسية غير رسمية أو من خلال التنسيق العسكري المحدود في بعض الفترات. لكن المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة يبدو أنها دفعت القيادة الكردية في العراق إلى إعادة النظر في مدى التزامها بمشروع الحكم الذاتي الكردي في سوريا. فمع تصاعد النفوذ التركي في دمشق، والضغوط السياسية والاقتصادية التي تواجهها أربيل، أصبح من الواضح أن دعم “روج آڤا” لم يعد أولوية، بل قد يشكل عبئًا سياسيًا قد تفضل القيادة الكردية تجنبه.

وفي هذا السياق، يبدو أن الرؤية التي تروج لها أربيل تتجه نحو خيار أكثر تحفظًا، يتمثل في اندماج الأكراد في سوريا ضمن الدولة السورية مع حصولهم على حقوق ثقافية ومواطنة كاملة، بدلًا من السعي نحو حكم ذاتي أو فيدرالية، وهو ما يتماشى مع موقف أنقرة التي ترفض أي كيان كردي مستقل على حدودها، كما يعكس مقاربة أربيل التي تفضل الحفاظ على علاقات مستقرة مع القوى الإقليمية بدلًا من الدخول في مغامرات سياسية غير محسوبة العواقب.

رئيس حكومة إقليم كردستان، مسرور بارزاني، ظهر في مقابلة مع قناة العربية خلال القمة العالمية للحكومات في دبي، حيث أجرى الحوار مع المذيعة ريم بوقمرة. في هذه المقابلة، تجنّب تمامًا استخدام مصطلح “روج آڤا”، مفضّلًا الحديث عن “أكراد سوريا” أو “كرد سوريا”، في خطوة تعكس توجّهًا سياسيًا مدروسًا. لكن اللافت في حديثه لم يكن فقط تجنّب المصطلحات، بل مضمون الرسالة التي حملها خطابه، إذ أكد على أن الأكراد في سوريا يجب أن يندمجوا مع النظام في دمشق مع حصولهم على حقوق ثقافية، وهو تصريح يتناقض جذريًا مع الخطاب الكردي التقليدي الذي كان يشدد على ضرورة ضمان الحكم الذاتي للأكراد في سوريا كحد أدنى.

المذيعة ريم بوقمرة لم تخفِ دهشتها من هذا الطرح، حيث بدا أن موقف بارزاني يشكّل انعطافة كبيرة في الموقف الرسمي لأربيل، مقارنة بالمواقف السابقة التي دعمت “روج آڤا” بشكل ضمني، أو على الأقل، لم تعارضها علنًا. غير أن هذا التوجّه الجديد يعكس بوضوح مقاربة أكثر انفتاحًا على بقاء الأكراد تحت سيادة دمشق، لكن ضمن إطار “حقوق ثقافية”، وهو مفهوم فضفاض يحمل العديد من التأويلات ولا يرقى بأي شكل من الأشكال إلى الطموحات السياسية التي سعت إليها الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا.

بعد أيام قليلة فقط من مقابلة مسرور بارزاني، جاء الدور على رئيس إقليم كردستان العراق، نيجرفان بارزاني، الذي سار على النهج ذاته، متجنباً أي ذكر مباشر لمصطلح “روج آڤا” ومفضلاً استخدام تعبير “أكراد سوريا”. لكن اللافت في تصريحاته لم يكن فقط تجنب المصطلحات، بل الطريقة التي أعاد بها صياغة الموقف الكردي تجاه سوريا. فعندما تحدث عن حنينه إلى “قامشلو، حلب، ودمشق”، كان واضحاً أنه يتبنى خطاباً يرسّخ الأكراد في سوريا كمكون اجتماعي وثقافي ضمن الدولة السورية، متجنباً أي إشارة إلى كيان سياسي مستقل في شمال وشرق البلاد.

هذا التوجه لم يكن مجرد زلة لسان أو اختيار لغوي عرضي، بل تأكد خلال مؤتمر ميونخ للأمن في ألمانيا، حيث كرر نيجرفان بارزاني النهج ذاته، متجنباً تماماً أي إشارة إلى “روج آڤا” أو “غربي كردستان”، مكتفياً بالحديث عن “أكراد سوريا” ضمن سياق يعكس تحولاً استراتيجياً في خطاب أربيل. التصريح، الذي جاء في محفل دولي بارز، لم يكن موجهاً فقط إلى الداخل الكردي، بل كان رسالة واضحة إلى العواصم الإقليمية والدولية، مفادها أن إقليم كردستان العراق لا ينوي تقديم أي دعم رسمي لمشروع حكم ذاتي كردي في سوريا، وأنه بات يتبنى موقفاً أكثر براغماتية، يوازن بين تعقيدات العلاقة مع دمشق من جهة، والضغوط التركية من جهة أخرى.

هذا الخطاب يحمل في طياته دلالات عديدة. فمن جهة، يبدو أنه جزء من استراتيجية واضحة لدى قيادة إقليم كردستان العراق لتجنب أي صدام مع القوى الإقليمية، وعلى رأسها تركيا، التي لطالما اعتبرت مشروع “روج آڤا” تهديداً مباشراً لأمنها القومي. ومن جهة أخرى، فإن تجنب الاعتراف بـ “غرب كردستان” كمصطلح سياسي قد يكون خطوة استباقية من أربيل لإعادة ضبط علاقاتها مع دمشق، التي تتبنى موقفاً عدائياً تجاه أي محاولة للحكم الذاتي الكردي داخل حدودها.

لفهم هذا التحول في الخطاب، لا بد من النظر إلى المتغيرات الإقليمية التي تؤثر بشكل مباشر على قرارات أربيل. فمنذ عام 2017، بعد استفتاء الاستقلال الذي أجرته حكومة إقليم كردستان العراق وانتهى بإجراءات عقابية من بغداد وتركيا وإيران، أدركت القيادة الكردية في أربيل أن أي محاولة للعب دور سياسي خارج الإطار المقبول دولياً قد تؤدي إلى نتائج كارثية.

تركيا، الحليف الاقتصادي الأهم لأربيل، تمارس ضغوطاً مستمرة على حكومة الإقليم لقطع أي صلة رسمية أو غير رسمية مع “روج آڤا”. وفي الوقت ذاته، فإن حكومة دمشق، التابعة بشكل كامل لهيئة تحرير الشام والموالية لتركيا بشكل مباشر، تعمل وفقاً لأجندة تتماشى مع المصالح التركية، مما يجعل موقف أربيل أكثر تعقيداً. فالنفوذ التركي المتزايد في دمشق يعني أن أي محاولة لدعم كيان كردي مستقل في سوريا لن تكون مجرد تحدٍ لدمشق، بل ستُفسَّر أيضاً على أنها مواجهة غير مباشرة مع أنقرة، الحليف الاقتصادي والسياسي الأهم لإقليم كردستان العراق. هذا الواقع يفسر الحذر الشديد الذي تبديه أربيل في مواقفها تجاه القضية الكردية في سوريا، حيث تسعى إلى الحفاظ على علاقاتها مع تركيا وعدم إثارة أي توتر قد يؤثر على استقرار الإقليم.

إلى جانب العوامل الجيوسياسية، هناك أيضاً بعد آخر لا يمكن إغفاله، وهو أن أربيل لا تريد نشوء كيان كردي آخر في المنطقة يمكن أن يتحول إلى منافس سياسي واقتصادي لها. فالإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، رغم التحديات التي تواجهها، أثبتت قدرتها على إدارة شؤونها الداخلية، وبناء علاقات دولية مستقلة، وهو ما قد يشكل تهديداً لمكانة إقليم كردستان العراق كالممثل السياسي الرئيسي للأكراد على الساحة الإقليمية والدولية.

على المستوى الدولي، فإن واشنطن، التي لا تزال تدعم قوات سوريا الديمقراطية، لم تبدِ أي التزام فعلي تجاه مستقبل “روج آڤا”، ما يعني أن المشروع الكردي في سوريا لا يحظى بضمانات قوية للبقاء. هذا الغموض الدولي يمنح أربيل مبرراً إضافياً لعدم المجازفة بدعم كيان قد لا يكون قادراً على الاستمرار دون دعم أمريكي واضح، وبدلاً من ذلك، تفضل الإقليم التركيز على تعزيز وضعها الداخلي وتقوية نفوذها الإقليمي بعيداً عن أي مغامرات غير محسوبة.

هذا التحول في خطاب القيادة الكردية في العراق لن يمر من دون تداعيات على الوضع الكردي في سوريا، خاصة أنه يعكس تراجعاً واضحاً عن أي دعم سياسي محتمل لـ”روج آڤا”. لطالما رأت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا أن أربيل قد تكون شريكاً استراتيجياً في ترسيخ مشروع الحكم الذاتي، لكن الرسائل الأخيرة الصادرة عن قيادات الإقليم تشير بوضوح إلى موقف مغاير. فإقليم كردستان العراق لا يبدو مستعداً لمنح أي شرعية سياسية أو اعتراف ضمني بمشروع كردي مستقل في سوريا، مما يفرض على “روج آڤا” إعادة تقييم استراتيجياتها المستقبلية.

في ظل هذا التحول، ستجد الإدارة الذاتية نفسها أمام خيارات صعبة، فإما أن تضطر إلى إعادة فتح قنوات تواصل مع دمشق، ولكن هذه المرة بشروط أكثر صرامة تفرضها حكومة تابعة لهيئة تحرير الشام وموالية بشكل كامل لتركيا، وهو ما قد يعني تقديم تنازلات كبيرة تمس المكتسبات التي حققتها الإدارة الذاتية خلال السنوات الماضية. أو قد تلجأ إلى تعزيز علاقاتها مع القوى الدولية الفاعلة، مثل الولايات المتحدة وفرنسا، أملاً في الحصول على دعم أكبر، رغم أن الموقف الأمريكي لا يزال غامضاً ولا يوفر ضمانات طويلة الأمد لأي كيان كردي مستقل في سوريا.

يضع خطاب أربيل الجديد “روج آڤا” أمام تحدٍ وجودي، حيث لم يعد بإمكانها الاعتماد على دعم إقليم كردستان العراق، في وقت تتزايد فيه الضغوط من أنقرة، وتتغير خارطة النفوذ في دمشق، بينما يبقى الموقف الدولي غير محسوم. وفي ظل هذه المتغيرات، فإن الشارع الكردي في سوريا قد يجد نفسه أمام واقع جديد يفرض مراجعة التوقعات التي بُنيت على أساس أن أربيل ستكون الداعم الأساسي لمشروع الحكم الذاتي. ومع استمرار الضغوط التركية والغموض الأميركي، يصبح مستقبل “روج آڤا” أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.

ختاماً، ما يجري اليوم ليس مجرد تغيير في الخطاب، بل هو تحول استراتيجي مدروس يعكس إعادة تموضع إقليم كردستان العراق في المشهد الإقليمي. فبين السعي للحفاظ على علاقات متينة مع تركيا، وتجنب أي تصعيد مع دمشق الخاضعة للنفوذ التركي، يبدو أن أربيل اتخذت خيار النأي بنفسها عن أي التزامات سياسية تجاه المشروع الكردي في سوريا، متجاوزة حتى الدعم الرمزي الذي كانت تقدمه في السابق.

لكن يبقى السؤال الأهم: هل هذا التحول مجرد تكتيك دبلوماسي مرحلي، أم أنه يعكس إعادة صياغة جذرية لموقف أربيل من “روج آڤا”؟ في ظل غياب أي مؤشرات على دعم دولي حقيقي لحكم ذاتي كردي في سوريا، واستمرار الضغوط التركية، وتنامي المصالح السياسية والاقتصادية لأربيل مع أنقرة، فإن الاحتمال الأرجح هو أن هذا الموقف ليس مجرد تكتيك عابر، بل يمثل تحولاً استراتيجياً طويل الأمد يهدف إلى تحييد أي مشروع كردي سوري قد يشكل منافساً سياسياً أو اقتصادياً للإقليم مستقبلاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

رادار سوريا