حين لا يكون سقوط الأسد نهايةً للطغيان؛ ثورة السوريين مستمرة

الدُّكتور يَحيى العَرِيضي – سِياسيّ وأَكادِيميّ سُوريّ
في تحوّلٍ بالغ التعقيد ضمن المشهد السوري ما بعد سقوط نظام الطاغية، تعيد “السلطة الانتقالية”، التي تهيمن عليها “هيئة تحرير الشام”، إنتاج منطق القمع والاستبداد، بعقلية سلطوية لا تختلف البتة في جوهرها عن البنية الشمولية التي ثار عليها السوريون. وبينما كانت أنظارنا تتجه إلى بناء نموذج بديل، يستند إلى مفاهيم العدالة والحرية والتشاركية السياسية؛ اتجهت هذه السلطة لممارسات قمعية تنتهك أبسط أعراف القانون، وتفكّك بمنهجها بنية المجتمع السوري.
ما حدث من غزوٍ همجي للسويداء مؤخراً، وما حدث قبله في الساحل السوري من انتهاكٍ للإنسان السوري، لم يكشف عن الطبيعة الأيديولوجية المتطرفة لهذه السلطة وحسب، بل كشف عن نية مبيتة لتصفية الهوية السورية المتنوعة، واستماتةً للبقاء في السلطة السياسية على حساب روابط السوريين بوطنهم وعيشهم المشترك.
غزو السويداء!!!! الاستبداد بقناع التحرير:
لم يكن الهجوم البربري على السويداء مجرّد حملة عسكرية وحسب، بل أنه جسّد حدثاً كاشفاً، تعرّى فيه زيف الشعارات، وانكشف حجم التناقض البنيوي بين خطاب التبشير بتحرير الإنسان، وإقامة دولة العدالة؛ والنية التسلطية للاستئثار بالحكم على حساب الكرامة الوطنية. لكن الأخطر من هذا الغزو العسكري الهمجي نفسه هو السياق السياسي الذي سبقه. فهذه الحملة لم تكن رد فعل طارئ، وليس نتاجاً لتطور ميداني، بل أنها ثمار مفاوضات الغرف المغلقة، التي جرى التفاوض فيها على هوية سوريا والسوريين، لا من أجلهم. مداولات فاوض فيها “القائد الفاتح” على موقعه في مشهد السلطة السياسية، لا على حقوق السوريين الذين رفضوا الاصطفاف خلف مشروع الهيمنة باسم”التحرير.”
وكأن السويداء ليست أرضاً سوريةً، استباحتها جحافل عسكرية تحت مسمّى “الضبط الأمني وبسط سلطة الدولة”. عنوان عريض لتصفيات ميدانية، وقتل جماعي للمدنيين، وحرق للمنازل والمحال التجارية، وإهانة لكرامة الإنسان. آلاف من المدنيين العزّل فقدوا منازلهم، وعشرات النشطاء الذين لم تفارق أصواتهم “ساحة الكرامة” وسط السويداء قتلتهم آلة الموت أمام بيوتهم. وفي الحقيقة، لم تكن هذه الحملة الوحشية إلا عملية إخضاع قسري لمجتمع هتف لحرية السوريين، ورفض الانخراط بقتلهم، ونادى بسقوط قاتلهم.
تجديد لأدوات الاستبداد:
لم يتوقف استهداف السويداء على انتهاكاتٍ مخزية لحقوق الإنسان، وإعادة نهج القتل والإبادة التي دأب نظام الأسد على ممارستها؛ بل أن “القيادة الحكيمة الجديدة” استثمرت الخصومة السياسية مع الشيخ حكمت الهجري، فحولتها إلى خلاف طائفي سنيّ-درزي، جرى من خلالها اختزال مكوّن اجتماعي سوري كامل بشخص واحد، ومهّد لحملة إعلام تحريضي تبرر القتل والإجرام، وتكرّس الإقصاء والإلغاء. لقد جرى استغلال الخلافات السياسية المرتبطة بمنهج الحكم، والمستقبل السياسي للسوريين ضمن أجندات أيديولودجية لا تخدم سوى الطغاة من منظور سياسة “فرّق تسد”. وبذلك، تبنّى المتسلطون الجدد روايتهم الطائفية لتجييش الشارع السوري ضد المكون الدرزي، عبر خطاب تحريضي يظهر مكوّناً كاملاً كتهديد وجودي ينبغي مواجهته بالإقصاء، ويبيج إخضاعه للسلطة بالقوة العسكرية.
تحت الظلال القاتمة (لمن تمنّى أن يعفيه السوريون من مهام “القيادة” ، ثم ما لبث أن نصّب نفسه وصياً عليهم)؛ نمت بذور التفكك، وتهشمت هوية التعايش المشترك، وتحطّمت أحلام شعب لطالما حلم بدولة العدالة والحرية. تحت ظلال من يروجون أنه لا بديلاً آخر، يعاد إنتاج نموذج الاستبداد والطغيان، وتُستنسخ أدوات التفرقة والاقتتال التي لطالما استخدمها نظام الأسد ليفتك بالسوريين. وهنا، سيكون علينا أن نسأل ضمائرنا، وأن نسأل وجداننا. هل سقط الأسد حقاً؟
بين حصار مضايا 2015 وحصار السويداء 2025: لم يسقط الاستبداد!!
كان من المفترض لخطاب “المحررين” الذين تبنّوا شعارات الثورة أن يشكل نقطة تحول جذرية في تاريخ سوريا الحديث. إلا أنه لم يتجاوز في مضمونه وممارساته سقف الاستبداد الأسدي السابق، بل أنه متماهٍ معه في نموذج أشد عنفاً، وأكثر إجراماً. في العام 2015، حاصر الطغيان الأسدي مدينة مضايا، واستخدم التجويع كأدة قمع وإبادة منهجية، مستهدفاً المدنيين في محاولة لإخماد صوتهم الحر، والقضاء على إرادتهم بالتغيير. سقط الأسد، لكن أدواته لم تسقط، وها نحن بعد عشر سنوات، نشهد تكراراً لهذه السياسة ذاتها في السويداء من قبل من ادعى أنه أسقط طغيان الأسد. لقد أُعيد إنتاج منظومة القمع ذاتها، ولكن بواجهة جديدة، حيث تتبدل الشخصيات ولكن تبقى السياسات والأهداف المرسومة ذاتها: تفكيك النسيج الوطني، إخضاع المكونات المجتمعية، وفرض سلطة القمع باسم الثورة.
أكثر من نصف مليون إنسان سوريّ في السويداء، يقبعون الآن تحت حصار ممنهج، قُطعت عنهم وسائل الحياة، وتركوا بلا خبز ولا كهرباء ولا ماء. أظهرتهم سلطة الاستبداد الجديدة كمشكلة أمام مسيرتها للتطوير والتحديث، وعقبة أمام نماذج التقدم والازدهار التي لا تزال في فضاء المؤتمرات وأمام عدسات الكاميرات. شيطنهم إعلام لم يدّخر جهداً في بث الفتنة والكراهية، والتهليل لجرائم جديدة تعيد للذاكرة أدوات نظام الأسد الشمولية التي فككت النسيج الوطني وضربته من الداخل.
لم يطلب أبناء السويداء سلطة سياسية، ولم يطالبوا بتقسيم. بل طالبوا بدولة تسودها الحرية، ويكون فيها الجميع تحت سقف القانون؛ دولة مدنية تحترم جميع أبنائها، لا تندمج فيها مؤسسات الدولة بشخص “القائد المفدى”، ولا يُقدس فيها الرئيس وتنتهك باسمه آمال السوريين. لكن ليس مستغرباً منهج القتل والتجويع لمن يهرول خلف الاستبداد بالسلطة، إنّما المستغرب حقاً هو استهداف مكوّن اجتماعي سوري، رفض مشاركة النظام البائد بقتل أشقائه، ومنع أبناءه من الانضمام لجيش السفاح. مكوّن أصيل احتضن آلاف الضيوف من السوريين طوال 14 عاماً، وأعاد إحياء الثورة في العام 2023 حين تجرّأت الدول التي تدعم “القيادة الحكيمة الجديدة” حالياً على تعويم الأسد والتطبيع معه سابقاً، فوقف شامخاً ليعلن أن لا مقايضة على كرامة السوريين.
في هذا السياق، يبدو أن من يتولى قيادة الانتقال إلى الاستبداد قرر معاقبة السويداء، وكل سوريّ حر شريف، ليس لأنها أو أنهم تهديد للأمن، بل لأنها ولأنهم يهددون شرعيته الزائفة، التي يستميت لبنائها على أنقاض دولة بلا عقد اجتماعي، وبلا شرعية وطنية، ولا تشاركية حقيقية.
لن تكون الحرية الحقيقة إلا بإرادة السوريين… السوريون فقط:
اليوم، يشير المبعوث الأممي إلى سوريا “غير بيدرسون” إلى ملامح الفشل في المرحلة الانتقالية، والتي تتعلق باستخدام العنف الممنهج، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من قبل “السلطة الانتقالية”. لكننا كسوريين، لم نعوّل يوماً إلا على ضمائرنا التي هتفت لإسقاط نظام الأسد، والذي لم يكترث يوماً لتصريحات دولية أو مطالبات أممية بوقف آلة القتل، وإبادة السوريين. وفي خضم هذه المرحلة المصيرية التي تمر بها سوريا، أصبح واضحاً أن مفهوم الحرية كهدف نبيل وغاية سامية، لا يمكن أن تُختزل في شعارات خارجية أو صيغ مفروضة من قوى إقليمية أو دولية، مهما علت أصواتها. بل أنها جزء من وجدان كل سوري حر صدح صوته بإسقاط الأسد لينال الحرية، لا ليستبدل الطاغية بطاغية جديد.
إلى “المتسلطين الجدد” الذين يحاولون إخضاع السوريين بمنطق القوة والبطش؛ إن الحرية الحقيقة التي هتفت لها السويداء، وكل الأحرار من السوريين، لن تكون إلا نتاجًا حقيقيًا للإرادة الصادقة والمتجذرة في نفوس السوريين الوطنيين أنفسهم.
لقد آن الأوان لصحوة هذا الشعب المكلوم، وآن الأوان لولادة قيادة سياسية مدنية تشاركية تستمد شرعيتها من هوية السوريين وتنوعهم، ومن مطالب الحرية والكرامة والعدالة، و من تضحيات السوريين الفريدة؛ لا من صفقات مشبوهة ولا من أجندات خارجية، و لا من تقديم أوراق اعتماد لمحتل الأرض، ولا من أدوات قمع وإرهاب ممنهج. فاستمرار الحال القائم تآمرياً على هذا الشعب يعني استمرار دورة العنف والقهر التي قهرت أجيالًا من السوريين، وهدّمت حلم الحرية الذي ناضلنا من أجله. آن الأوان ليحضر قرار هذا الشعب، ليس كخيار سياسي، بل واجب أخلاقي علينا نحن جميعاً كأبناء هذه الأرض السورية الطاهرة، لنكتب نهاية معاناتنا ونحافظ على كياننا وتاريخنا ومستقبلنا.
تنويه: الآراء الواردة في هذا المقال تعود إلى كاتبها ولا تعبّر بالضرورة عن موقف منصة رادار سوريا أو توجهاتها التحريرية.