آراء

‏الجولاني ليس مسلماً..

سَالِي عُبَيْد – باحثة في شؤون الانتقال السياسي والعدالة الانتقالية

في البدء، لا يمكن تصنيف الجولاني ضمن أي مذهبٍ إسلاميٍّ معروف؛ لا هو سلفيٌّ بالمعنى الأصولي، ولا جهاديٌّ بالمعنى التطبيقي، بل هو مؤسسٌ لنسقٍ فكريٍّ جديدٍ يضع السلطة موضع العقيدة، والمصلحة محلّ النص. ما يدعو إليه ليس الإسلام الذي عُرف في الكتاب والسنّة، وإنما بناءٌ بشريٌّ مُؤدلَج يلبس ثوب الدين ليُبرِّر تسلّط الحاكم وتبدّل المواقف.
‏منذ ظهوره على رأس جبهة النصرة، قدّم الجولاني نفسه وريثًا للتيار السلفي الجهادي، ثم تحوّل تدريجيًا بعد انفصاله عن القاعدة إلى زعيمٍ محليٍّ ذي نزعة سلطوية. وقد وصفت دراسات مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) هذا التحول بأنه “انزياح من الجهاد الأممي إلى سلطة محلية تسعى للشرعية أكثر من النصرة”. وبيّن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في دراسته “عصر الجهاد السياسي” أن الجولاني لم يراجع فكره بل أعاد توظيفه سياسيًا، إذ استبدل العقيدة بالحوكمة، والجهاد بالمصلحة، فباتت جماعته تحكم إدلب كما تحكم الأنظمة التي كان يصفها بالطاغوت.
‏تؤكد دراسة صادرة عن المعهد الأوروبي للبحوث الأكاديمية (EUI) أنّ هيئة تحرير الشام تحوّلت إلى “نظام سلطوي ديني” يحتكر الخطاب والسلطة، ويُعيد تعريف المفاهيم الشرعية بما يخدم مشروعها السياسي. فهي تُبقي على المظهر السلفي كواجهة، لكنها تمارس عمليًا ما يشبه “العلمانية السلطوية المقنّعة”، حيث يُحصر الدين في الطاعة، وتُختزل الشريعة في الولاء للجولاني. أمّا دراسة جوليان دريفون في مجلة Mediterranean Politics فتصف المرحلة الراهنة بأنها “نهاية السلفية الجهادية التقليدية” وبداية مذهب براغماتي جديد يقدّم القائد على النص، والغاية على الوسيلة.
‏هذا الانحراف الفكري لم يكن محصورًا في التنظير، بل انعكس في الممارسة اليومية داخل مناطق نفوذه: إغلاق المراكز الدينية المستقلة، قمع العلماء غير الموالين، تشويه الخصوم، وفرض فتاوى متقلّبة تُجيز ما كان يصفه سابقًا بالكفر، كالتعاون مع القوى الدولية أو التعامل مع الفصائل “المرتدة”. وهو ما وصفه تقرير مركز ويلسون للأبحاث بأنه “تديّنٌ وظيفيٌّ لا إيمانيّ، يستعمل الدين لتثبيت السلطة لا لإقامة الحق”.
‏من حيث العقيدة، يقوم الإسلام على التوحيد والعدل والصدق، وهي الأركان التي نقضها الجولاني في فكره وممارساته. من يكذب باسم الدين، ويغتال خصومه بتهمة المخالفة، ويشرعن الاغتصاب والاعتقال والقمع السياسي تحت شعار “المصلحة الشرعية”، لا يمكن أن يُعدّ مسلمًا بمعنى الانقياد لله ورسوله، بل هو نموذج للإلحاد العملي الذي يجعل الإيمان وسيلة للسلطة لا غاية للعبادة. وهنا تتقاطع شهادات معهد الشرق الأوسط (MEI) وهيومن رايتس ووتش التي وثّقت الانتهاكات الممنهجة في سجون الهيئة، مع تبريرات دينية تُنسب زورًا إلى الشريعة.
‏إنّ ما فعله الجولاني هو تفكيك المنظومة الجهادية الكلاسيكية، وإعادة بنائها على أساسٍ سلطويٍّ جديدٍ يقوم على مركزية “الزعيم الفقيه” بدل “النص الحاكم”. هذه الصيغة لا تُشبه فكر ابن تيمية ولا خطّ سيد قطب، بل تمثّل مذهبًا جديدًا يمكن تسميته بـ «الجولانية السياسية» مذهبٌ يتبنّى أدوات الإسلام دون روحه، ويحوّل الجهاد إلى أداة حكم، والدعوة إلى وسيلة إخضاع.
‏إنّ أحمد الشرع لم يُنشئ دولةً إسلامية، بل سلطةً دينية مزيّفة تحكم باسم الإسلام وتكذّب الإسلام. فبينما كان ابن تيمية يقول: “من جعل هواه إلهه فقد عبده”، جعل الجولاني هواه مذهبًا وعبادةً. ولهذا لا يصحّ أن يُقال إنه مسلمٌ إلا بالاسم، إذ الإسلام الذي أتى به محمدٌ عليه السلام لا يعرف الكذب ولا التمثيل بالقتل ولا استباحة الأعراض. ما يقدّمه الجولاني اليوم ليس دينًا، بل مسرحًا سلطويًّا يتقمّص القداسة ليديم السيطرة.
‏إنّ كشف زيف هذا المنهج واجب فكري قبل أن يكون شرعيًا، لأن الدفاع عن جوهر الإسلام يقتضي فضح من جعل منه وسيلةً للسلطة. ومن هنا، لا يُمكن فهم “الجولانية” إلا كمذهبٍ جديدٍ في تاريخ الانحراف، وبدعةٍ سياسية تتلبّس بثوب الإيمان لتُخفي خواءها العقدي والإنساني.

تنويه: الآراء الواردة في هذا المقال تعود إلى كاتبها ولا تعبّر بالضرورة عن موقف منصة رادار سوريا أو توجهاتها التحريرية.

author avatar
سَالِي عُبَيْد - باحثة في شؤون الانتقال السياسي والعدالة الانتقالية
باحثةٌ سوريّةٌ في شُؤونِ الانتقالِ السياسيِّ والعَدالةِ الانتقاليةِ، وناشطةٌ في مَجالِ التوثيقِ الحُقوقيِّ. تَشغَلُ حاليًا مَنصِبَ الأمينِ العامِّ لِمُنظَّمةِ "أَناتْ للعَدالةِ وحُقوقِ الإنسان" في السويد. إلى جانِبِ مَسيرتها الحُقوقية، أَسَّسَت شَرِكتَيْنِ رِبحِيَّتَيْنِ في دبي، تَنشُطانِ في مجالاتِ التكنولوجيا، إنترنتِ الأشياء، والتقنياتِ الرياضية. تُمثّل سالي جيلًا جديدًا من الخُبراء الذينَ يَمزِجونَ بَينَ التحليلِ السياسيِّ العميقِ والخبرةِ التكنولوجيةِ المُتقدِّمة، معَ تركيزٍ خاصٍّ على قضايا ما بعدَ النِّزاعِ في السِّياقِ السُّوريِّ.

سَالِي عُبَيْد - باحثة في شؤون الانتقال السياسي والعدالة الانتقالية

باحثةٌ سوريّةٌ في شُؤونِ الانتقالِ السياسيِّ والعَدالةِ الانتقاليةِ، وناشطةٌ في مَجالِ التوثيقِ الحُقوقيِّ. تَشغَلُ حاليًا مَنصِبَ الأمينِ العامِّ لِمُنظَّمةِ "أَناتْ للعَدالةِ وحُقوقِ الإنسان" في السويد. إلى جانِبِ مَسيرتها الحُقوقية، أَسَّسَت شَرِكتَيْنِ رِبحِيَّتَيْنِ في دبي، تَنشُطانِ في مجالاتِ التكنولوجيا، إنترنتِ الأشياء، والتقنياتِ الرياضية. تُمثّل سالي جيلًا جديدًا من الخُبراء الذينَ يَمزِجونَ بَينَ التحليلِ السياسيِّ العميقِ والخبرةِ التكنولوجيةِ المُتقدِّمة، معَ تركيزٍ خاصٍّ على قضايا ما بعدَ النِّزاعِ في السِّياقِ السُّوريِّ.

تعليق واحد

  1. هذه القراءة لافتة ومهمة، وهي زيادةً على أنها مستحقة بالمطلق تبعاً لظروف زمان ومكان ماقدمه ويقدمه الجولاني أمس والشرع اليوم من نهج سياسي هو أقرب للميكافيللية السياسية في شكله ومضمونه، يخالف تماماً كل الأسس التي اعتمدتها حركات الإسلام السياسي، أصولية وغيرها، بما فيها ثوابت الولاء والبراء، والحاكمية، بدءاً بالمودودي ومروراً بسيد قطب وإنتهاءً بأغلب منظري الإسلام السياسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

رادار سوريا