آراء

‏العريضي: سوريا وقد خرجت من قبضة العتمة.. لن تعود إليها من جديد

لم يتخيّل السوريون الذين قدّموا دماءهم قرباناً للحريّة، أن تُسرَق أحلامهم بأيدٍ تدّعي تمثيل عذاباتهم، بعد نصف قرن من الطغيان، ظنّوا أن الحرية أخيراً قد أطلت، وأن أبواب العدالة قد فُتحت للشهداء، وأن دولة مدنية جديدة في طريقها للتشكّل، لكنّ هدير السلاسل حين يتحطم يظلّ يطنّ في ذاكرة النفس والجسد، فغمرهم الفرح، معتقدين أن صيدنايا أُغلقت للأبد، وأن صوت الجلاد خفت، وأن الكابوس الذي كتم أنفاسهم لعقود قد تلاشى.

لم يدركوا أن كسر القيد لا يعني التحرّر من أثره، وأن للظلمة وجوهاً متعدّدة، قادرة على إعادة إنتاج ذاتها حين تُغطّى بخطاب ثوريّ زائف، وتُفرض بالقوة والعسف، في غياب القانون والضمير.

سرعان ما سُرِقَت أحلام السوريين من قِبل متسلّطين جدد، لم يأتوا من رحم الثورة، بل من صلب منظومة الاستبداد، يتكئون على إرث التطرف لا على تطلعات الشعب.. ظهروا أوصياء على الحرية، لكنهم ما لبثوا أن تحولوا إلى طغاة، يكررون ما فعله النظام الذي خرج السوريون لإسقاطه قبل أربعة عشر عاماً.

تحت شعار مشوّه “من يحرر يقرر”، المستعار من قاموس البعث، مارسوا القمع والاعتقال، وأعادوا رسم مشهد استبداد جديد.. بدا وكأنّ الأسد لم يسقط قط، بل السوريون هم من أُريد لهم السقوط، ضحايا سلطة أمر واقع، تلبس قناعاً أيديولوجياً، تنتمي هي والطاغية إلى مدرسة واحدة: مدرسة القمع والدم.

غزوا، قتلوا، نهبوا، ثم تسوّلوا اعترافاً دولياً، وراحوا يقدّمون التطمينات للمجتمع الدولي بأنهم لا ينوون إبادة السوريين.. سخرية سوداء، تُضاف إلى فصول المأساة.
كان الظنّ أن النفق انتهى بنور، فإذا بها هاوية أخرى.. وقع السوريون في فخ منظومة متطرّفة، لا تعترف إلا بحريّة واحدة:
ـ حريّتها في البقاء في السلطة، ولو على أشلاء الأبرياء وخرائب المدن.

من وسط الخطابات الثورية المتكلّسة، تسلل طغيان جديد، لا يختلف في الجوهر عن سابقه، وعد بالإصلاح والحوار وإعادة البناء، لكنه لم يُقدّم سوى وهمٍ لغويّ، وديكور سياسيّ لا يرقى حتى لمستوى التمثيل.

تكوّنت سلطة الطغيان من طبقتين: الأولى نخبة موالية من أهل الولاء لا الكفاءة، والثانية متطرفون يحملون رايات الموت، لم يتركوا للسوريين حتى خيار كيف يُقتَلون.

“الحوار الوطني” مجرد عنوان أجوف، صار منصة للولاء، لا للتمثيل، تُطبخ فيها المقررات قبل أن تُناقش، ويُعلَن فيها عن “قائد مفدى جديد” بترتيب عسكري شكلي، مُنح صلاحيات تعيدنا إلى حقبة الأسدية بكل رمادها.
وكأن التاريخ يعيد نفسه، لا كملهاة بل كمأساة:
ـ مجلس معيّن، ودمى مصفّقة، ويُطلب من السوريين أن يصدّقوا أن هذا هو طريق خلاصهم.

ظن السوريون أن الوصول إلى الحرية سيعني إعادة إعمار، ولقمة مغمّسة بالكرامة، لكن ما حصدوه خيبة جديدة. لا بيوت، لا وظائف، ولا رغيف.
صفقات تُبرم في الفنادق الفخمة، بينما السوريون يقاتلون الجوع في المخيمات والمدن المحطّمة..
في لحظة أمل بنهاية الإجرام الأسدي، ظنّ البعض أن من حمل راية دينية متطرّفة سيتحوّل إلى شريك في بناء الدولة، فإذا به يعيد ذات الجريمة، ولكن باسم جديد: “نحن الدولة”.

سوريا اليوم، من ساحلها الجريح إلى جبلها المكلوم، ومن عاصمتها المُنهَكة إلى شمالها الصامد، ما تزال تحت سجنٍ جديد، أدواته قديمة: التخويف، التشكيك، التخوين، وتكميم الأفواه. ما ارتكبه “القائد الفاتح” ليس خطأ فرديّاً، بل انعكاس لمنظومة لا تؤمن إلا بالبطش، وتسير على خُطى أسيادها السابقين.. سقطت شعاراتهم على أرض الحقيقة، وصحا السوريون من نشوة إسقاط الأسد، ليجدوا أنفسهم أمام نسخة جديدة منه.. بل نسخة مسخ عن مسخ أبيه.

بات التخوين سياسة رسمية: “من يعارض، يُتهم بالعمالة”. بينما يُغضّ الطرف عن صفقات مع الخارج، وبيع للمقدّرات، و تقديم أوراق اعتماد للمحتل، ومساومات على دم الشعب؛ فقط ليبقى الحاكم في كرسيه، ولو يسبح في بركة من الدماء وقد استباح الحياة.

“خائنٌ من يطلب الحماية من الإبادة”، وفق منطق الطاغية الجديد، ولكن “وطنيٌّ من يقتل ويحرق ويدمّر”.
خائن من يرفض سلطتهم، ووطنيٌّ من يصمت على ممارساتها، أو يرى فيها “إنجازات”، لو كانت حقيقية لما وقف سوري واحد في وجهها.

ضاقت البلاد بأهلها، وتحوّلت خريطتها إلى مناطق نفوذ وقمع.. طاغية جديد جعل الناس ينسون الأول، لأنه كرّس الخوف والتفرقة بذات الوسائل: ـ بالدم، بالبطش، وبزرع الشكوك بين أبناء الشعب الواحد.

لن نخسر سوريا مرة أخرى.. الطغاة يرحلون، وتبقى الشعوب حين تقرر أن تنهض. هذه البلاد التي دفعت دماً ودموعاً من أجل حرية الصوت والمصير واللغة وكرامة الرغيف، لن تفتح ذراعيها لذاك النوع الهجين الذي جاء بثقافة تورا بورا، ليسطوا على أقدم مدينة في التاريخ..على مدينة المدنية، وروح السلام، وحصاد ستة آلاف عام من العمارة، والحضارة والعائلة الدولة، لا دولة العصابة.

لقد ضاقت البلاد بأهلها، وانكمشت خريطتها في عيون السوريين لمناطقِ نفوذٍ وسيطرة.

طاغية جديد أنسى السوريين ذكر الطاغية الأول، يقتاتُ على انقسام هذا الشعب، وبمنهجٍ مكررٍ يكرّس التفتّت بالخوف والدم والشك. لكن لن نخسر سورية مجدداً. ولن يكون لمستبد جديد مستقبل في ضمائر السوريين. السوريون- الذين انتزعوا حريتهم بيدهم، ودفعوا لها ثمناً آلاف الشهداء- يدركون تماماً أن المخرج ليس في منحة دولية، ولا في التعويل على الخارج، أو على تغير مزاج الساسة. بل إنه سوري الهوية، سيولد من رحم تلاقي السوريين سوية، ومن عذابات من ذاقوا قهر البعث البائد، وممن يتجرعون مرارة الرايات السود.

هذه البلاد لن تكون رهينة لتلك الرايات.. لا تراهنوا على صبرها طويلاً، فلقد اختبرت إرادتها، ومن طرد “الدكتاتور المسخ”، لا بد ويطرد الدكتاتورية الوليدة التي لن تعثر على مرضعتها في الشام.

الدكتور يحيى العريضي - سياسي وأكاديمي سوري

يحيى العريضي، سياسي وأكاديمي سوري من مواليد عام 1954، يعد من أبرز الشخصيات السورية التي جمعت بين العمل الإعلامي والنشاط السياسي المعارض، متكئًا على خلفية أكاديمية رصينة وتجربة مؤسساتية طويلة داخل سوريا وخارجها. برز العريضي كصوت مستقل داخل هيئة التفاوض السورية التي أعيد تشكيلها في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، حيث تولى مهمة المتحدث الرسمي باسم الهيئة، كما شارك لاحقًا كعضو في اللجنة الدستورية الموسعة المنبثقة عن الأمم المتحدة بتاريخ 23 أيلول/سبتمبر 2019. عرف بمواقفه الحاسمة في مقاربة مستقبل سوريا السياسي، حيث أعلن صراحة معارضته لنظام بشار الأسد في مقابلة مع قناة العربية عقب مغادرته سوريا في أيار/مايو 2013، بعد أن اختبر عن قرب حدود وهم الإصلاح ضمن مؤسسات النظام. في لحظة حرجة من تاريخ سوريا، شارك العريضي في حزيران/يونيو 2011 ضمن لجنة رسمية لصياغة قانون الإعلام، كان النظام قد شكلها في محاولة لامتصاص ضغط الشارع. إلا أن مشاركته لم تطل، وسرعان ما تحوّل إلى أحد أبرز الأصوات النقدية لهذه البنية القمعية من خارج البلاد. يشغل العريضي سجلًا حافلًا في التعليم والعمل الإعلامي، فقد تولّى عمادة كلية الإعلام في جامعة دمشق بين عامي 2010 و2013، ودرّس في كل من كلية الإعلام وكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة ذاتها. كما أعدّ وقدم برامج عدة على شاشة التلفزيون السوري، وأدار لاحقًا المركز الإعلامي السوري في لندن. يحمل الدكتور العريضي درجة الدكتوراه في الإعلام من جامعة جورج تاون في واشنطن، وقد تخرج أيضًا من جامعة هارفارد، ما يعكس عمق تكوينه الأكاديمي الذي ساعده في صقل خطابه السياسي والإعلامي لاحقًا. يقيم العريضي حاليًا بين فرنسا وسوريا، ويواصل نشاطه السياسي والفكري في إطار دعم التحول الديمقراطي في سوريا، مع الحفاظ على استقلاليته عن الأجسام السياسية التقليدية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

رادار سوريا