آراء

المعضلة السورية والخروج الآمن

د. حسن أبو طالب

لا ينكر أي متابع لما يجري في سوريا، أكان عالماً بدهاليز السياسة أو شخصاً عادياً، أن سوريا تعيش الآن مرحلة مخاض مملوء بالاضطرابات والإشارات المتضاربة. فأبعاد المعضلة السورية تتكشف بين لحظة وأخرى، وما يوصف بأنه خطوة إيجابية مبشرة سرعان ما تتكشف تفاصيله، بأنه إما فاقد لآليات التطبيق، كما هي الحال في الاتفاق بين الرئيس أحمد الشرع والأكراد السوريين، ممثلين في زعيم «قسد» مظلوم عبدي، وإما يتجاوز طموحات قطاعات عريضة جداً من السوريين الآملين في العيش تحت سقف قانون عادل ومنصف، يرسخ المساواة بين كل السوريين، ومساحة من الحريات للجميع، أياً كانت طائفتهم أو دينهم أو منطقتهم الجغرافية.

 

فكثير من قرارات السلطة الجديدة وإن غُلِّفت بنيَّات حسنة، فإن أسلوب تطبيقها لا يوفر أساساً لمصالحة سورية عامة، ولا يعطي مؤشراً قوياً على أن المستقبل القريب يستند إلى آليات حكم غير التي كانت قبل اختفاء بشار الأسد وانهيار نظامه. والأمثلة كثيرة، فالمنهج الذي صيغت به الوثيقة الدستورية الموصوفة بأنها انتقالية، تشتمل على 53 بنداً، تماثل من حيث الشكل العام الدساتير الدائمة التي تصدرها الدول المستقرة، وفق إجراءات شفافة ومشاركة واسعة، وتخضع لحوار مجتمعي حقيقي؛ إذ لم يحدث شيء من هذا. فلجنة الدستور شُكِّلت بقرار رئاسي، ولم تتواصل مع مكونات الشعب السوري، وفي خلال أسبوع واحد وضعت وثيقة دستورية لخمس سنوات انتقالية مرة واحدة، تماثل من حيث الشكل أيضاً مدة رئاسية كاملة في كثير من الدول التي تعتمد أسلوب الانتخاب لاختيار الحاكم.

ولا أدري؛ لماذا لم تُشكل طاولة حوار مجتمعي موسعة تستمر شهراً أو شهرين، تشارك فيها رموز من مختلف المكونات السورية، وتُقر مبادئ لمرحلة انتقالية لفترة زمنية محدودة لا تزيد على عامين، وبعدها انتخابات حرة لبدء حياة سياسية مستقرة تعلن بها عن سوريا جديدة لكل مواطنيها؟

إن التسرع في إصدار وثيقة دستورية مفصَّلة توفر للرئيس سلطات واسعة -وإن قيل إن ظروف سوريا تتطلب يداً حازمة قادرة على التعامل الحازم مع التحديات- اتضح معه أن ردود الفعل من مكونات سورية كثيرة ترى الأمور عكس ما استُهدف، مما يضع أعباء على الرئيس وحكومته، في الداخل كما في الخارج. فهناك من يرى أن سوريا الجديدة لا تحمي كل مواطنيها، وبخاصة أصحاب العقائد ذات الخصوصية، ومن ثَم يبررون لأنفسهم تقديم مظلة حماية لهؤلاء المتضررين، ويستشهدون بما ورد في الوثيقة الدستورية وطريقة إصدارها.

داخلياً، «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية (قسد)، رأت أن الدستور الانتقالي يتناقض مع المبادئ الواردة في الاتفاق الموقع مع الرئيس أحمد الشرع. ومواقف فئات علوية ودرزية -وإن اختلطت فيها التحفظات والرفض والصمت- تعد إشارات ذات دلالة، وفي الخلفية من ينذر باللجوء إلى السلاح؛ سواء مَن يوصَفون بالفلول، أو بالمتشككين في النظام الجديد، ومن ثم فالأمر يتطلب معالجة رشيدة، بدلاً من أن تتفاقم الأمور، على النحو الذي تنذر به زيارات بعض رجال الدين الدروز السوريين إلى داخل الجولان المحتل، مع مراعاة أن من بين الدروز السوريين من انتقد الزيارة؛ رغم محاولات صبغها دينياً، ونفي دلالاتها السياسية.

وثائق الدستور في المراحل الانتقالية ليست وثائق مقدسة، فإن فرضَت التجربة العملية التغيير في بنيتها كلياً أو جزئياً، فمن الحصافة والحكمة لمن يملك القرار أن يتجاوب مع تلك التحفظات، وأن يوسع مساحة المشاركة، وأن يثبت وعوده في احتواء الجميع من دون استثناء.

معضلة الدستور الانتقالي تمتد إلى كثير من القرارات التي لم تضع في اعتبارها أن انهيار النظم لا يعني بالضرورة التخلص من كل مؤسساتها بجرة قلم، وبالأخص: الجيش، والشرطة، والاستخبارات، والخارجية، والتعليم، والاقتصاد. ففي تلك المؤسسات فئتان: الأولى هي العليا التي تماهت مع النظام السابق، ويُفترض التخلص منها ومحاسبة المخطئين بالقانون على تجاوزاتهم في حق الناس، والثانية الغالبية من التقنيين والإداريين، ولا يعدُّون مسؤولين كالفئة الأولى، وتظل لديهم معرفة معقولة بإدارة كثير من الملفات، والتي يحتاج إليها أي نظام جديد، وبقليل من الترشيد يظل هؤلاء عنصراً مهماً في بناء النظام الجديد.

والثابت أن نتيجة التضحية بالفئتين معاً والبدء من الصفر -كما يحلو للبعض وهم في حالة نشوة ثورية زائفة- تكون بلداً بلا جيش ولا أمن، ولا فئة تكنوقراطية، ولا خبراء ولا علماء، وبالتالي يضع النظام الجديد نفسه في دوامة لا نهاية لها، فضلاً عن أطماع خارجية شرسة.

وقد يجد البعض من صانعي النظام الجديد غضاضة في احتواء قطاعات من العاملين في تلك المؤسسات كأساس تقني يُعتمَد عليه، خوفاً من عدم الولاء للنظام الجديد، وهو أمر تغيب عنه التداعيات الخطرة التي يتضمنها لفظ آلاف من الموظفين والعمال، وتركهم وأُسَرهم بلا عمل ولا مورد رزق، ما يدفع كثيرين منهم إلى الانزلاق إلى أعمال عدائية؛ سواء فردية أو جماعية.

وفي التجارب التي شهدت تحولات ثورية عميقة، واعتمدت مبادئ العدالة الانتقالية منهجاً لإعادة البناء، انتقلت البلاد من الفوضى إلى الارتقاء، وشهد لها الجميع بالرشادة السياسية، وهنا يبرز كل من تجربتَي: رواندا في عهد بول كاغامي بعد المذابح الأهلية 1994 بين الهوتو والتوتسو، والتحول إلى بلد مستقر يحقق تنمية مشهودة، بعد اعتماد سياسة المصالحة الوطنية، ونبذ العنف والتعددية السياسية، وتجربة جنوب أفريقيا الشهيرة بعد سقوط النظام العنصري فيها 1990. قد تأخذ بعض تلك الإجراءات وقتاً لتصبح منهجاً مجتمعياً متكاملاً، ولكنها تستحق التطبيق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

رادار سوريا