بعد انسحاب محور المقاومة: العلويون بين الاضطهاد الداخلي والصمت الدولي

تقرير ميداني – منصة رادار سوريا
لم يكن سقوط النظام السوري مجرد نهاية سياسية، بل إعلانًا عن حقبة جديدة، حيث وجدت الطائفة العلوية نفسها وحيدة في مواجهة مصيرها. عقود من الولاء المطلق لمحور المقاومة والممانعة انتهت بلحظة انسحاب هذا المحور، تاركًا العلويين في مهب الريح، بلا حماية ولا امتيازات، يواجهون العواقب وحدهم.
منذ سيطرة قوات غرفة “ردع العدوان” على المشهد السوري، بدأ تضييق الخناق على مناطق الأقليات، ولم تكن الطائفة العلوية استثناءً. العقوبات التي فُرضت لم تتوقف عند الإجراءات الإدارية، بل امتدت إلى المجال الاقتصادي، ووصلت في بعض المناطق إلى مستوى العقوبات العسكرية. لكن الأخطر كان العقوبات المعنوية، التي شكّلت تمهيدًا للحملات الأمنية والعسكرية. قرارات الإدارة الجديدة أخرجت مئات العلويين من وظائفهم، وفرضت عليهم عزلة اقتصادية ممنهجة، لكن الأشد وقعًا كان ما يتعرضون له من حملات إذلال اجتماعي، رافقتها خطابات عنصرية وتحريض ممنهج على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تحولت صفحات رسمية إلى منصات لتبرير استهداف العلويين، وتصويرهم كأعداء يجب التخلص منهم. في الشوارع، ازدادت الاعتداءات اللفظية والجسدية، وظهرت شعارات تحضّ على طرد العلويين من المناطق التي يقطنونها. بعض المحال التجارية التي يملكها علويون تعرضت للتخريب، فيما فرضت على بعض الأسر إجراءات تقييدية تمنعهم من التنقل بحرية في المدن التي كانت تحت سيطرة النظام.
التمييز لم يتوقف عند حد الخطاب، بل تعداه إلى تصرفات أكثر وحشية. تقارير ميدانية تشير إلى أن بعض المستشفيات رفضت استقبال المرضى العلويين، بحجة أن العلاج يجب أن يكون “للأحرار فقط”، فيما مُنع بعض الطلاب من دخول الجامعات والمؤسسات التعليمية، بذريعة أنهم “ورثة النظام السابق”. العلويون العاملون في قطاعات حيوية مثل النقل العام والطاقة وجدوا أنفسهم مطرودين، وفي بعض الحالات، تم الاستيلاء على منازل عائلاتهم بحجج قانونية واهية. الرسالة التي أرادت السلطة الجديدة إيصالها كانت واضحة: لم تعودوا جزءًا من هذا الوطن. عبارة “سبحان من أذلكم وأعزنا”، التي تكررت على ألسنة المسؤولين الجدد، لم تكن مجرد إهانة عابرة، بل إعلانًا صريحًا بأن مفهوم المواطنة قد انتهى، وأن سوريا الجديدة تقوم على خطوط فاصلة لا مجال فيها للعلويين.
التقارير التي تخرج من المناطق العلوية تتحدث عن عمليات انتقامية ممنهجة، وحملات أمنية تعسفية يتم تنفيذها تحت شعار “طفّوا الكاميرات”، حيث لا توثيق ولا مساءلة. الجثث التي تُلقى يوميًا في الشوارع لم تعد مجرد إشاعات، بل واقع يومي تعيشه المناطق التي كانت حتى وقت قريب جزءًا من المنظومة الحاكمة. بعض الشهادات تؤكد أن عمليات الخطف والاعتقال تتم بشكل عشوائي، حيث يتم احتجاز الأفراد دون محاكمة أو توجيه تهم، فيما يُجبر بعض المعتقلين على الإدلاء باعترافات تحت التعذيب، ليتم لاحقًا تصفيتهم بذريعة أنهم “عملاء للنظام السابق”.
طوال حكم البعث، كان العلوي هو الجندي الأول في صفوف محور المقاومة، يُطلب منه أن يموت دفاعًا عن النظام، في سبيل معركة كبرى لم يكن له رأي في خوضها. نظام الأسد الأب، ثم الابن، ثم حتى زوجة الابن، استخدموا أبناء الطائفة وقودًا لاستمرار حكمهم، لكنهم عندما انهاروا، لم يُظهر حلفاؤهم أي رغبة في الدفاع عنهم. محور المقاومة الذي كان لسنوات يُقدَّم كضامن لبقاء العلويين، انسحب دون مقاومة، تاركًا أتباعه يواجهون مصيرهم في مواجهة التنظيمات الإسلامية الراديكالية. خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، ارتفعت أصوات العلويين، للمرة الأولى، تستنجد بالعالم الخارجي. التقارير تتحدث عن انتهاكات واسعة النطاق من قبل هيئة تحرير الشام وقوات الأمن التابعة لحكومة الجولاني، وسط غياب أي تحرك دولي. النظام السابق، وعلى مدار 14 عامًا، منع العلويين من التحدث عن الانتهاكات التي تعرضوا لها على يد المعارضة، ودفن قضايا مثل خطف نساء القرى العلوية في ريف جسر الشغور عام 2014-2015 تحت غطاء الصمت الرسمي. لكن اليوم، مع غياب السلطة المركزية التي كانت تكمّم الأفواه، بدأت الشهادات تتدفق، مطالبة العالم بالتدخل.
ورغم ذلك، لم يتحرك المجتمع الدولي، ربما بسبب أن العلويين كانوا دومًا محسوبين على المعسكر الإيراني-الروسي، وربما لأن القوى الغربية لم تكن ترى مصلحة في التدخل لحمايتهم. لكن التطور الجديد جاء من حيث لم يكن متوقعًا، عندما نفّذ التحالف الدولي، خلال الساعات الماضية، ضربات جوية في ريف طرطوس وحمص وحماة وإدلب. الضربات، التي استهدفت مواقع أمنية تابعة لقوات “ردع العدوان”، تحمل رسالة سياسية قبل أن تكون عسكرية. وفق مصادر ميدانية، فإن الضربات جاءت بمثابة تحذير واضح لقادة القوات الجديدة بأن الطائفة العلوية قد تصبح تحت حماية دولية، وهو تحول جذري في موقف التحالف الدولي. إذا صحّ هذا التوجه، فإن ذلك يعني أن المعادلة على وشك أن تتغير، وأن العلويين قد يتحولون من كونهم ورقة محرقة في يد النظام إلى ملف دولي يتم التفاوض عليه.
لكن يبقى السؤال الأكبر: هل هذه الضربات تمثل بداية فعلية لتحرك دولي يضمن حماية العلويين، أم أنها مجرد خطوة في سياق لعبة أكبر لا تعنيهم بقدر ما تعني إعادة ترتيب التوازنات الإقليمية؟ في كل الأحوال، يبدو أن العلويين، لأول مرة منذ عقود، أمام مفترق طرق، حيث لا قرارات تُتخذ عنهم، بل قرارات يفرض عليهم اتخاذها بأنفسهم.