شرق الفرات خارج المشهد: لحظة الحقيقة أمام الإدارة الذاتية في ظل إعادة رسم سوريا الجديدة

تنويه: يُنشر هذا النص ضمن قسم “سياسات وبُنى” المخصص للدراسات والتحليلات المعمّقة. ما يرد فيه يعكس اجتهاد الفريق البحثي القائم على منهج تحليلي موضوعي، ولا يُعدّ بالضرورة موقفًا رسميًا لمنصة رادار سوريا.
في منعطف دقيق من التاريخ السوري الحديث، تتسارع التحولات التي لم تعد مجرد مؤشرات سياسية أو اقتصادية، بل تحوّلت إلى إشارات بنيوية على أن الخارطة السورية كما عرفناها في مرحلة ما بعد الحرب تدخل طوراً جديداً من التشكل يعكس موازين قوى جديدة، وواقعاً إدارياً واقتصادياً يعاد ترتيبه بالتفاهم لا بالمواجهة، وبالمصالح لا بالأيديولوجيات.
لم تعد عناوين السيادة وحدها هي ما يُحدد وزن الكيانات الفاعلة، بل حجم انخراطها في مسارات إعادة الإعمار، والقدرة على اجتذاب الاستثمار، وتقديم نفسها كمنصة جاهزة للحلول لا كحالة مؤقتة من الإدارة الأمنية أو الثورية. وفي هذا السياق، تطرح الأسئلة الكبرى نفسها بإلحاح على الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا: هل ما زالت هذه المنطقة جزءًا من الحسابات الاقتصادية والسياسية لسوريا الجديدة؟ أم أنها تنزلق تدريجياً نحو الهامش، بفعل غياب الرؤية وتراكم الانغلاق الإداري؟
لقد دخلت سوريا، بصمت وفعالية، مرحلة “الترتيب الناعم”، حيث يتم استبدال أدوات الهيمنة التقليدية بأدوات استثمارية تمكينية، وتُعاد هندسة النفوذ عبر البنى التحتية، والمرافئ، والطاقة، والتعليم، والقطاع المصرفي، وليس عبر فوهات البنادق أو البيانات السياسية. المسألة لم تعد “من يسيطر؟”، بل “من يملك القدرة على تشغيل الجغرافيا وتوصيلها بسوق أوسع؟”، و”من يستطيع أن يوقّع العقود، ويؤسس شبكات المصالح، ويمنح الاستقرار بوصفه قيمة مضافة، لا شعاراً سياسياً؟”.
وفي هذا السياق، تبدو العاصمة دمشق وكأنها تعيش انفجاراً اقتصادياً ناعماً، لا من حيث النتائج المباشرة على الشارع فحسب، بل في رمزية عودة الدولة إلى قلب المحور الاستثماري الإقليمي والدولي، بدعم واضح ومعلن من عواصم ذات ثقل نوعي: أبوظبي، الرياض، الدوحة، أنقرة، باريس، وحتى بعض مراكز التأثير في واشنطن. لم يعد الحضور العربي والغربي في دمشق يقتصر على اللقاءات السياسية الرمزية، بل تحول إلى منصات تفاهم اقتصادي عابر للقطيعة، حيث يُعاد تعريف دور سوريا في الإقليم، لا بوصفها دولة مأزومة فقط، بل كمركز قيد التكوين لعلاقات اقتصادية جديدة تمتد إلى المتوسط، والخليج، وآسيا الوسطى، وشرق أوروبا.
أما شرق الفرات، حيث تُدير الإدارة الذاتية واحدة من أكثر المناطق السورية غنى بالموارد، فتبدو وكأنها تراقب هذه التحولات من مسافة غير مفهومة، في صمت لا يفسّره سوى غياب الخطة، أو غياب الإرادة، أو الاثنين معاً.

فجوة السلطة والبنية المؤسسية: بين الدولة الدستورية في دمشق والهيئات الرمزية في شرق الفرات
حين نتأمل المشهد الإداري والسياسي في سوريا اليوم، نجد أنفسنا أمام مفارقة صارخة تكشف عن تفاوت جذري في بنية السلطة ومرجعيتها بين منطقتين تدّعيان الحكم والسيادة على جزء من البلاد. فمن جهة، دمشق التي تُعيد ترسيخ نفسها بوصفها دولة ذات بنية قانونية مكتملة، قائمة على مؤسسات واضحة، وهيكل دستوري معروف، ومرجعيات تنفيذية وتشريعية يُمكن تتبعها داخل النظام الإداري الرسمي. ومن جهة أخرى، شرق الفرات، حيث تُمارس سلطة أمر واقع، بواجهات إدارية تحمل طابعاً رمزياً أو ثورياً، لكنها تفتقر إلى الجوهر القانوني الذي يُشكّل أساس الدولة الحديثة.
في دمشق، يقود الرئيس المؤقت أحمد الشرع حكومة معترف بها داخلياً، ذات امتداد دستوري وتنفيذي واضح. السلطة تُمارس من خلال هيئة رئاسة مجلس الوزراء، ووزارات حقيقية مسؤولة أمام قانون يُحدد صلاحياتها، ومراسيم نافذة تنظم عملها، وسلسلة مؤسسات تمتد من المركز إلى المحافظات. كل وزارة تملك توصيفاً وظيفياً، وموازنة، ونظاماً داخلياً، ومرجعية دستورية تعطيها شرعية العمل وتمثيل الدولة داخلياً وخارجياً. الوزراء ليسوا مجرد إداريين، بل يحملون صفة رسمية تمكّنهم من التفاوض، وتوقيع الاتفاقيات، والظهور كممثلين للدولة السورية أمام الهيئات الإقليمية والدولية.
هذا النظام، برغم تعقيداته وتحدياته، يستمد جذوره من إرث إداري يمتد إلى زمن الانتداب الفرنسي، حين تأسست الدولة السورية الحديثة على أساس تقسيمات إدارية واضحة، وسلطات محددة، وقوانين مكتوبة نُقلت واستُكملت لاحقًا. الدستور السوري، مهما كانت درجة التعديل فيه، لا يزال يحتفظ ببنيته الكلاسيكية التي تُرتّب العلاقة بين السلطات، وتنظّم عمل الدولة من الرئاسة إلى أصغر دائرة خدمية في الريف.
أما في شرق الفرات، فالمشهد يختلف تماماً. ما يُعرف بـ “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” يُمارس سلطة فعلية على الأرض، لكنه لا يمتلك البناء القانوني الذي يحوّل هذه السلطة إلى شرعية دستورية أو مؤسساتية. لا يوجد ما يمكن تسميته برئيس للحكومة أو حتى وزير بالمعنى القانوني، بل هناك “رئاسة مشتركة للمجلس التنفيذي”، يتقاسمها شخصان: أفين سويد وحسين عثمان. هذا النموذج المستورد من التجربة الحزبية الكردية (وخاصة تجربة حزب العمال الكردستاني) لا يستند إلى أي قاعدة قانونية أو دستور محلّي مُعتمد. إنه نظام أقرب إلى منطق “الإدارة التعبوية” أو “التمثيل الثوري”، وليس إلى منطق المؤسسة العامة ذات الصلاحيات الإدارية الملزمة.
ما يوجد في شرق الفرات هو ‘عقد اجتماعي’ غير ملزم قانونيًا، وثيقة رمزية لا ترقى إلى مستوى الدستور المحلي أو قانون إدارة فعلي.
ولو أخضعنا هذه الرئاسة المشتركة لمقياس الإدارة الكلاسيكية، فإنها لا توازي حتى منصب “المختار” في النظام الإداري الموروث عن فرنسا. فالمختار، رغم محدودية دوره، يملك وثائق قانونية رسمية، وله دور في تسجيل الوقائع المدنية، وإصدار إفادات قانونية، ويُعتمد كممثل محلّي ضمن منظومة الدولة. بينما في “الرئاسة المشتركة”، لا توجد صلاحيات مُحددة، ولا توصيف وظيفي قانوني، ولا أداة للتمثيل الخارجي المعترف به. وما يُمارَس على الأرض هو أقرب إلى توافق حزبي على توزيع تمثيل شكلي، لا يتيح لأي طرف منهم ممارسة الفعل التنفيذي الكامل.
وتزداد الفجوة وضوحاً حين ننتقل إلى ما يُقابل الوزارات. في دمشق، نرى وزارات فعلية: وزارة الداخلية، وزارة الصحة، وزارة التربية، وزارة الطاقة… وكل منها تملك جهازاً إدارياً واسعاً، وتسلسلاً هرمياً واضحاً، وخططاً سنوية، ومؤسسات تابعة. أما في شرق الفرات، فالتسمية المعتمدة هي “هيئات”، يُرأس كل منها من قبل “رئيس هيئة”، دون توصيف قانوني محدد، ودون اعتماد رسمي، ودون بنية تنظيمية تربطها بشبكة وطنية شاملة.
هذه الهيئات لا تملك صفة قانونية معترف بها، ولا ترتبط بقانون موحّد ينظّم صلاحياتها، ولا تخضع لمساءلة برلمانية، ولا لرقابة قضائية أو مالية مستقلة. تُدار بالقرارات التنظيمية الصادرة من المجلس العام أو القيادة الحزبية، لا بموجب قوانين مؤسسات الدولة. كثير من قراراتها تُصدر عن طريق اجتماعات مغلقة، أو توافقات بين الفاعلين المحليين، أو حتى بتأثير مباشر من القيادة العسكرية التي تمتلك، عملياً، الكلمة النهائية في معظم المسائل الحساسة.
ولا بد من الإشارة هنا إلى الغياب الكامل اليوم لمنصب “رئيس الإقليم” أو “رئيس الإدارة الذاتية”، بوصفه الموقع السيادي الأعلى في قمة الهرم التنفيذي والسياسي لمناطق شمال وشرق سوريا. لا توجد أي شخصية اعتبارية تتولى هذا الدور، ولا يُعرَّف المنصب في أي وثيقة قانونية أو إدارية معتمدة. لا صلاحيات مُحددة، ولا وصف وظيفي، ولا جهة رسمية تتحدث باسمه أو تمارس مهامه. بل إن المنصب نفسه لا يُذكر في الخطابات الرسمية الصادرة عن المؤسسات، وكأن الفكرة غير مطروحة، أو جرى تجاوزها بفعل توافقات داخلية لا تعكس طبيعة الحكم ولا تستجيب لحاجة البناء المؤسسي السليم.
غياب هذا المنصب لا يعني فقط فقدان الرأس التنفيذي للإدارة، بل يعني أيضاً فقدان الرمز السياسي الأوحد القادر على تجسيد السلطة أمام الداخل والخارج. ففي كل نظم الحكم سواء أكانت رئاسية أم برلمانية أم حتى شبه اتحادية يمثّل رأس السلطة التنفيذية نقطة الارتكاز التي تلتقي عندها السياسات، وتتوزع منها الصلاحيات، وتُبنى حولها آليات اتخاذ القرار. أما في الحالة الراهنة للإدارة الذاتية، فلا يوجد شخص يمكن مساءلته، أو تحميله المسؤولية، أو الاستناد إليه في التفاوض مع الكيانات الأخرى. هذا الفراغ يفرّغ أي محاولة لبناء سياسة خارجية أو اقتصادية مستقلة من مضمونها، لأنه لا يوجد كيان واضح يمكن التعامل معه قانونياً أو دبلوماسياً أو حتى بروتوكولياً.
من الناحية القانونية، فإن غياب المنصب يُبقي السلطة التنفيذية في حالة توزع ضبابي بين المجالس والهيئات والرئاسات المشتركة، دون وضوح في المسؤولية ولا تسلسل في المحاسبة. وهذا التشتت لا يسمح ببناء جهاز حكومي فعّال قادر على اتخاذ القرار، أو إدارة المفاوضات، أو إصدار تعليمات موحّدة تكون ملزمة على مستوى الإقليم. النتيجة هي غياب مركز قرار معروف يمكن تحميله نتائج الفشل أو نسب النجاح إليه، وهو ما يُضعف شرعية الإدارة ذاتها، ويجعلها أقرب إلى هيئة تنسيقية مؤقتة منها إلى حكومة ذات صفة سيادية.
أما من الناحية السياسية، فإن هذا الغياب ينعكس على صورة الإقليم أمام المجتمع الدولي والفاعلين الإقليميين، حيث لا يمكن لأي دولة أو جهة أن تُخاطب “كياناً تنفيذياً” غير موجود. وهذا ما يُعقّد مهمة الانخراط في أي اتفاقيات أو تفاهمات طويلة الأجل. فالدبلوماسية لا تُبنى مع لجان، بل مع مؤسسات، والاعتراف لا يُمنح لتشكيلات غير معرّفة قانونياً، بل لمواقع سيادية واضحة لها تمثيل رسمي وصلاحيات معلنة.
الخطورة لا تكمن فقط في الفراغ الإداري، بل في تآكل الرمزية السياسية. فالإدارة التي لا تملك رأساً سيادياً، تفقد تدريجياً قدرتها على صياغة خطاب موحّد، وتنتقل من كونها مشروع حكم إلى حالة منسّقة لتسيير الأمور، دون مشروع واضح للسلطة، ودون حامل سياسي يمكن أن يكون عنواناً للحوار أو التفاوض أو حتى الاعتراض.
وبهذا المعنى، فإن غياب منصب “رئيس الإقليم” لا يُعد تفصيلاً إدارياً قابلاً للتجاهل، بل هو تعبير عن أزمة بنيوية في شكل الحكم، وعقبة مركزية أمام تحوّل الإدارة الذاتية إلى كيان فعّال داخل المشهد السوري الجديد. وإن لم يُبادر إلى خلق هذا الموقع، وتحديد مهامه، وتأطيره ضمن منظومة قانونية ناظمة للعلاقات بين السلطات، فإن الإدارة الذاتية ستبقى في موقع غير مكتمل، وغير قابل للتفاوض، وغير قابل للتصدير كشريك سياسي واقتصادي في مستقبل سوريا.
أما على المستوى التشريعي، فالوضع أكثر تعقيداً. “المجلس العام لشمال وشرق سوريا”، الذي يُفترض أن يمثل السلطة التشريعية، لا يُعدّ برلماناً فعلياً لا شكلاً ولا مضموناً، بل هو عبارة عن هيئة مصغّرة من مكونات حزبية ومجتمعية، تُدار من دون صلاحيات حقيقية، ولا آلية انتخابية عامة، ولا بنية قانونية تنظم عملها. المجلس لا يملك صفة تشريعية مستقلة، ولا يمارس رقابة مؤسساتية على الهيئات التنفيذية، ولا يصادق على الموازنات أو السياسات العامة وفق آليات معروفة في النظم البرلمانية. وبذلك، يمكن القول إن البنية البرلمانية غائبة بالكامل، لا من حيث الشكل المؤسسي، ولا من حيث الوظيفة الرقابية أو التشريعية.
وما يفاقم الفجوة المؤسسية في مناطق الإدارة الذاتية، أن هذا الكيان لا يملك حتى اليوم جهة تنفيذية تُسمى رئاسة الحكومة تكون مسؤولة عن تنسيق العمل الداخلي وإدارة العلاقات مع الخارج بشكل رسمي. لا يوجد مكتب لرئاسة الحكومة يُنظم القرارات، يوقّع العقود، يستقبل الوفود، ويضبط جدول الزيارات الخارجية أو يفاوض على شراكات إقليمية. في الوقت الذي تُرسل فيه الحكومات حول العالم وزراءها لتوقيع الاتفاقيات أو تمثيل بلادهم في المحافل، لا تمتلك الإدارة الذاتية أي منصب يُمكّنها من مخاطبة العالم بهذه الصفة.
كما لا يوجد وزير أو وزيرة للخارجية. لا منصب رسمي، لا مرجعية دبلوماسية، لا قنوات تواصل مؤسسية مع الجاليات في الخارج أو مع الكيانات الدولية التي تنشط في المنطقة. العمل الخارجي، إن وُجد، يتم عبر شخصيات متفرقة، بدون تفويض موحد، وبدون غطاء قانوني أو إطار رسمي. وغياب هذا الهيكل الدبلوماسي الرسمي يعني أن المنطقة لا تملك حتى الأدوات الأولية للتمثيل، ولا القدرة على بناء علاقات مؤسسية ثابتة تحمي مصالحها.
المفارقة أن مظلوم عبدي، الذي يُمارس فعلياً دور القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، ويملك تأثيراً كبيراً ومباشراً على مجمل مفاصل الإدارة الذاتية، لا يحمل أي صفة رسمية تُخولّه تمثيل الإقليم سياسياً أو دستورياً. سلطته تُمارَس كأمر واقع، لا كجزء من هندسة قانونية ناظمة للعلاقات بين المؤسسات. وهو لا يتولى أي منصب تنفيذي أو سياسي مُعلن، ولا يرتبط عمله بمرجعية مدنية يُمكن من خلالها مخاطبة المجتمع الدولي بوصفه ممثلاً شرعياً لمناطق شمال وشرق سوريا.
هذا الغياب للصفة الرسمية لا يُضعف فقط قدرة الإدارة الذاتية على التفاوض أو التمثيل، بل يفتح المجال أمام نوع من “التداخل غير المنظَّم” بين السلطة العسكرية والسلطة الإدارية، على نحو يُربك مبدأ الفصل بين السلطات، ويُكرّس صورة نموذج سلطوي غير قابل للقياس بمقاييس الدولة الحديثة. فالقائد الفعلي هو رأس عسكري غير مُعرّف ضمن أي قانون، ويمارس دوراً يشمل التأثير على القرارات السياسية والإدارية، دون أن يكون خاضعًا لمحاسبة رسمية أو مساءلة برلمانية أو قضائية، ببساطة لأنه لا توجد جهة تمتلك السلطة أو الهيكل اللازم للمساءلة أصلاً.
وفي هذا الواقع، تظهر أزمة بنيوية تتجاوز شخص مظلوم عبدي لتطول منطق الإدارة ذاته، حيث تتداخل السلطات في فراغ تشريعي، وتُمارَس السلطة باسم “التنظيم” لا باسم المؤسسة. وهذا يُضعف ثقة الداخل، ويُعقّد أي حوار مع الخارج، لأن من يُسيّر القرار لا يُمكن التعامل معه كجهة رسمية، ومن يُفترض أن يتحدث باسم المنطقة لا يمتلك أدواته المؤسسية، ومن يُفترض أن يُحاسب، لا يملك أساسًا منصة للمساءلة.
بهذا الشكل، تتحول الإدارة الذاتية إلى كيان إداري يمارس سلطته بمنطق السيطرة، لا بمنطق الحكومة. وكلما طال أمد هذا النمط من الإدارة، زادت الفجوة بين الواقع وبين الشكل الذي يُفترض أن تكون عليه “السلطة التنفيذية” في أي منظومة سياسية تطمح لأن تكون شريكاً في مستقبل سوريا. فمن لا يملك رأساً سياسياً واضحاً، ولا يحتكم إلى مؤسسة، ولا يُنتج آلية فصل وتكامل بين العسكري والمدني، يبقى أسير حالة رمادية تُثير الشك أكثر مما تفتح أبواب الاعتراف.
الأخطر أن البنية القانونية التي تنظم توزيع السلطات ما تزال غائبة بالكامل. لا دستور محلي، ولا قانون إداري موحّد، ولا أنظمة تفصيلية تنظم العلاقة بين المستويات التنفيذية والتشريعية. ما يوجد هو “العقد الاجتماعي“، وثيقة سياسية رمزية لا ترقى إلى مستوى القانون الإداري، ولا تحدد بدقة الصلاحيات أو أدوات الرقابة والمساءلة. السلطة موزعة على مجالس وهيئات وقوى ميدانية، لكنها بلا بنية موحدة، وتُدار في الغالب بمنطق التفاهمات الحزبية لا بمنطق القانون.
وهكذا، تتحول “الحكومة” في شرق الفرات إلى كيان غامض: تُمارَس السلطة باسمها، وتُصدر القرارات تحت مظلتها، وتُدار العقود من خلالها، لكن دون أن يكون أحد قادراً على تحديد من هو رئيسها، ومن يمثلها، ومن يفوض من، ومن يُحاسَب. أقرب إلى “حكومة دارك ويب” كل شيء يُدار باسمها، لكن لا أحد يعرف من فيها، أو كيف تُدار، أو من المسؤول عن ماذا.
قراءة تحليلية موجزة في "ميثاق العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية" – مقاطعة الجزيرة / سوريا
(صادر بموجب المصادقة في الجلسة رقم 1 بتاريخ 6 كانون الثاني/يناير 2014)
رغم أن الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تتبنى ما يُعرف بـ"العقد الاجتماعي" بوصفه مرجعاً دستورياً بديلاً، إلا أن هذا الميثاق لا يرقى، في بنيته وآلياته، إلى مستوى الدستور الفعّال أو القانون الإداري الناظم لبنية الدولة الحديثة. فالوثيقة، وإن كانت تعلن التزامها بالفصل بين السلطات وبمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أنها تُقدَّم بصيغة إعلانية تأسيسية أقرب إلى البيان السياسي منها إلى النص القانوني القابل للتقنين والتنفيذ والرقابة. لا توجد فيها تفصيلات إجرائية كافية تتيح توزيعاً واضحاً للصلاحيات بين السلطات الثلاث، ولا تراتبية مؤسسية تُضبط من خلالها العلاقة بين المجالس التنفيذية، والهيئات، والهياكل القضائية، أو حتى الأجهزة الرقابية.
تؤكد الوثيقة في مادتها الأولى على أن "السيادة للشعب"، لكنها لا توضح كيف تُمارس هذه السيادة مؤسسياً، أو من هي الجهة المخوّلة بالتمثيل، أو آليات نقل السلطة والمساءلة الدورية. كما تنص مواد أخرى على وجود "مؤتمر الشعب" و"المجلس التشريعي"، لكنها لا تحدد صلاحيات ملزمة لهذه الهيئات، ولا تحدد أدوات الموازنة، أو الرقابة، أو كيفية سن القوانين وتعديلها، أو حتى آلية حل النزاعات بين السلطات. وبذلك، تبقى معظم الصلاحيات موزعة بشكل أفقي غير منضبط، ما يُنتج ازدواجية في القرار، وتضارباً في المهام، وغياباً للمساءلة الوظيفية.
أخطر ما في هذا الغياب هو أنه يسمح بتغوّل السلطة غير الرسمية أو الحزبية على القرار الإداري، ويُبقي المشهد مفتوحاً على منطق التفاهمات الحزبية أو التعيينات التوافقية، دون وجود مرجعية قانونية يمكن الرجوع إليها في حال النزاع. فلا يوجد دستور محلي واضح، ولا قانون إداري موحّد، ولا محكمة دستورية مستقلة تراقب تطبيق الميثاق. وهذا ما يفسّر غياب رئاسة تنفيذية فاعلة، أو وزارة خارجية، أو جهاز تشريعي فعّال، أو حتى مركز إداري موحد يُعبر عن الإقليم بمفهوم الدولة الناشئة.
إن ما يُسمى بالعقد الاجتماعي، في شكله الحالي، لا يؤسس لحالة سيادة قانون، بل يُبقي الإدارة الذاتية في موقع رمزي، يحكمه الطابع الثوري أو الحزبي، لا المؤسسي. وهو ما يعمّق الفجوة بين السلطة والمجتمع، ويقوّض أي إمكانية لاعتراف خارجي دائم، أو لشراكة اقتصادية دولية تستند إلى إطار قانوني مستقر. ومن دون معالجة هذه الفجوة، ستبقى الشرعية السياسية للإدارة الذاتية هشّة، وستظل مؤسساتها معرضة للارتياب، داخلياً وخارجياً، بسبب غياب المرجعية القانونية المحكمة.
إن هذا الفرق الجوهري بين منطق الدولة ومنطق الإدارة يضع شرق الفرات أمام معضلة وجودية. فالعالم، حين يتعامل مع الكيانات، لا يُقيّمها بعدد المقاتلين أو المساحات المسيطر عليها، بل بحجم مؤسساتها، ووضوح قوانينها، وقدرتها على التفاوض والإنجاز والتعاقد. وفي مثل هذا الغموض، تصبح كل محاولات الإدارة الذاتية لبناء شرعية سياسية أو اقتصادية معرضة للشك، أو التهميش، أو عدم الاعتراف. فالعالم لا يتعامل مع كيان غير معرف قانونياً، ولا يُبرم اتفاقيات مع جهة لا تملك وزارات ولا رئاسة حكومة ولا سفارات ولا قوانين مُعلنة. وفي عالم تُقاس فيه الفاعلية بالمؤسسات، من لا يمتلك مؤسسة… لا يُمنح مكاناً.

أسئلة لا تحتمل التأجيل
في ظل التحولات العميقة التي تمر بها سوريا، لم يعد من الممكن التعامل مع القضايا الاقتصادية بوصفها ملحقاً ثانوياً للملف السياسي أو الأمني. فزمن الانتظار والمراوحة قد انتهى، وحلّ محله منطق الفعل الاستباقي، والمبادرة الواقعية، والرهان على من يملك رؤية قابلة للتطبيق. وفي هذا السياق، فإن حكومة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا باتت مطالبة بالإجابة على مجموعة من الأسئلة الجوهرية، لا بوصفها اختبارات نظرية، بل كشرط وجودٍ فعلي في معادلة سوريا القادمة.
السؤال الأول والأكثر إلحاحاً: هل تمتلك حكومة الإدارة الذاتية سياسة واضحة ومعلنة لجذب الاستثمار المحلي والدولي؟ سياسة لا تكتفي بالشعارات، بل تُترجم إلى لوائح تنفيذية، وقوانين محفزة، ومؤتمرات معلنة، وخرائط فرص استثمارية يتم الترويج لها في العواصم المؤثرة؟ ما من كيان يمكن أن يدّعي موقعاً سيادياً إن لم يكن قادراً على تقديم نفسه كبيئة قابلة للعمل والإنتاج، وليس فقط كإدارة تسيّر الوضع القائم.
هل جرى وضع قانون استثمار عصري؟ قانون يفهم لغة السوق، يطمئن المستثمرين، ويتضمن ضمانات حقيقية لحماية رأس المال، وتحديد آليات التحكيم وتسوية النزاعات، ويوضح الإعفاءات والتسهيلات، ويضبط العلاقة بين المستثمر والمؤسسة الرسمية؟ إن غياب مثل هذا القانون يُفرغ أي خطاب اقتصادي من مضمونه، ويجعل المنطقة تبدو غير جاهزة، بل وغير راغبة في الانخراط.
أين هي “النافذة الواحدة” التي يقصدها المستثمر؟ هل توجد هيئة اقتصادية مركزية مخولة بالتفاوض، وتقديم التراخيص، وتمثيل شرق الفرات في الفعاليات الاقتصادية الإقليمية؟ أم أن المشهد لا يزال عبارة عن شبكة بيروقراطية مبهمة، تتوزع فيها الصلاحيات دون تنسيق، ويغيب عنها الاتصال الحقيقي بالعالم الخارجي؟
هل توجد خارطة اقتصادية للمنطقة؟ ليس مجرد وصف للواقع، بل خطة فعلية توضح ما هي القطاعات المؤهلة للنمو، وأين تقع الأراضي القابلة للاستثمار، وما هي مصادر الطاقة، وما هي خطوط النقل والربط الممكنة؟ كيف يمكن لمستثمر جاد أن يدخل منطقة لا تملك سردية واضحة عن مزاياها ولا تضع حوافز ملموسة أمامه؟
ثم ماذا عن العلاقات الاقتصادية الدولية؟ هل طرقت حكومة الإدارة الذاتية أبواب غرف التجارة الخليجية؟ هل تواصلت مع وكالات التنمية الأوروبية؟ هل فكّرت في الدخول بمشاريع مع شركات آسيوية أو شركات تكنولوجيا زراعية أو صناعات خفيفة؟ أم أن السياسة الاقتصادية تُدار من منطق رد الفعل أو الخوف من المبادرة؟
ما هو تصور حكومة الإدارة الذاتية للتكامل الاقتصادي مع باقي الجغرافيا السورية؟ هل تملك رؤية لعلاقة غير تابعة ولكن متفاعلة مع الاقتصاد الوطني؟ هل تفكر في ربط شبكاتها بالخدمات العامة السورية؟ أم أنها لا تزال حبيسة منطق “الانعزال كضمانة سياسية”، غير مدركة أن العزلة الاقتصادية هي أقصر الطرق نحو الاضمحلال السياسي؟
هل هناك حتى مبادرة رمزية لإطلاق منطقة حرة أو صناعية تجريبية؟ مجرد مشروع صغير يُظهر أن الحكومة قادرة على إدارة النمو، لا فقط السيطرة على الأمن؟ هل حاولت تطوير شراكة مع القطاع الخاص المحلي؟ هل جربت أي شكل من الحاضنات الاقتصادية، المسرّعات، أو منصات دعم المشاريع الناشئة؟ أم أن منطق الفعل لا يزال غائباً، والرهان الوحيد هو على “استقرار سلبي” يُخفي حالة شلل مؤسساتي عميق؟
هذه ليست أسئلة تقنية، بل أسئلة وجودية. لأنها تمس جوهر المشروع الذي تحمله الإدارة الذاتية لنفسها ولمنطقتها. فمن لا يملك خطة، سيُدار وفق خطط الآخرين. ومن لا يشارك في بناء المرحلة الجديدة، سيكون مضطراً للقبول بما يُفرض عليه لاحقاً، دون قدرة على تعديل أي بند في الاتفاقات.
لم تعد الشرعية تُمنح بالخطاب أو الهوية، بل تُكتسب عبر الفاعلية. من لا يملك أدوات السيادة المؤسسية، لن يُدعَ إلى الطاولة.
وفي المقابل، نرى الحكومة المركزية بقيادة أحمد الشرع لا تنتظر إذناً من أحد. ترسم خريطتها بالعقود، تبني مستشفياتها بدعم خارجي، توقع اتفاقيات الطاقة والمياه، وتُمدّ شبكات الكهرباء بهدوء، بينما تُترك الكيانات الأخرى لتتآكل بالزمن. لا تُقصى بالقرار، بل تُجاوز بالزخم.
إن لم تبادر حكومة الإدارة الذاتية اليوم، فإن الغد سيُكتب من دونها، لا بالحرب، بل بالخرائط، لا بالإقصاء العنيف، بل بالتجاهل العميق. وفي زمن التأسيس الجديد، من لا يجلس على الطاولة… لن يُحسب حتى في الهوامش.

الشرعية من بوابة التنمية: كيف تتحول الجغرافيا إلى مشروع؟
في المرحلة السورية الراهنة، لم تعد مقاييس الشرعية السياسية تُقاس فقط بقدرة أي طرف على فرض السيطرة أو ضمان الأمن، بل أصبحت مشروطة بالقدرة على تفعيل الجغرافيا من خلال أدوات اقتصادية مُنظمة. بات من الواضح أن قوة الحكم لم تعد تنبع من احتكار أدوات الضبط أو الرمزية الثورية، بل من فاعلية المؤسسات في تحويل الأرض التي تُدار إلى مشروع متكامل يمكن إدماجه في منظومات السوق، والخدمات، والعقود العابرة للحدود.
الحكومة المركزية بقيادة أحمد الشرع التقطت هذا التحول مبكرًا، وبدأت بإعادة تعريف دورها من خلال مسار اقتصادي طويل الأمد، لا يستند إلى خطاب تعبوي أو ممانع، بل إلى بناء شبكة من المصالح الإقليمية عبر مشاريع كبرى: تطوير مرافئ طرطوس واللاذقية، التوسع في البنية التحتية للطاقة، وإحياء الربط السككي كوسيلة لإعادة ترتيب العلاقة بين الداخل والخارج. هذه المشاريع لا تُقرأ كمجرد أدوات خدمية، بل كبنية سيادية جديدة تُحوّل الدولة من سلطة إدارية إلى فاعل اقتصادي.
رغم امتلاك الإدارة الذاتية لشكل من السيطرة، إلا أنها غير قادرة على تحويل هذه السيطرة إلى نموذج اقتصادي مستدام يُحتسب سياسيًا.
في المقابل، تبدو الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، رغم استقرارها الأمني وتماسكها الإداري النسبي، بعيدة عن هذا التوجه. فهي لم تنجح حتى الآن في تقديم نموذج تنموي قابل للتكرار أو التفاوض. ورغم امتلاكها موارد طبيعية، ومجتمعاً حيوياً، وقوة أمنية منظمة، إلا أن غياب الإرادة السياسية لتطوير نموذج اقتصادي متكامل، يجعل من هذه الجغرافيا كيانًا إدارياً يُسيّر الواقع ولا يُعيد صياغته.
المؤسسات القائمة في شرق الفرات لا تمتلك حتى الآن تصورات مُعلنة للاستثمار، أو سياسات لتحويل المنطقة إلى مركز إنتاجي أو عقدة لوجستية ذات قيمة استراتيجية. الخطاب السائد لا يزال يدور حول مفاهيم التمثيل الذاتي والاستقرار، دون الترجمة العملية إلى أدوات اقتصادية: لا حوافز، لا بيئة تشريعية متكاملة، ولا شراكات اقتصادية مدروسة مع فاعلين دوليين أو إقليميين.
في دمشق، يتم بناء ملف اقتصادي يمكن طرحه ضمن الحسابات الإقليمية والدولية، فيما تفتقر الإدارة الذاتية إلى أدوات موازية، سواء من حيث البنية القانونية، أو من حيث القدرة التفاوضية. الأمر لا يتعلق فقط بغياب الاعتراف السياسي، بل بغياب الآليات التي تجعل أي نموذج إداري قابلاً لأن يُعتَرف به من خلال فاعليته، لا من خلال خطابه.
الشرعية في السياق السوري الجديد ترتبط بالقدرة على تسيير الكهرباء، وتوفير المياه، وتوليد الوظائف، وتحريك الأسواق. هي نتاج علاقة منتجة بين الجغرافيا والاقتصاد، وليست نتيجة حصرية للرمزية السياسية أو الانضباط الأمني. النموذج الذي يُبنى في دمشق يتم تأطيره بمؤسسات واضحة ومشاريع قابلة للتنفيذ، في حين ما يزال النموذج في شرق الفرات مشغولًا بإدارة ملفّات داخلية دون منظور إنمائي واضح.
الخلل هنا ليس فقط في الموارد أو الإمكانات، بل في غياب القرار الاستراتيجي القادر على تحويل السلطة إلى مؤسسة منتجة، والجغرافيا إلى مشروع تفاوضي. الاستمرار في إدارة الواقع، دون خطة اقتصادية، لا يؤسس لشرعية مستدامة، ولا يُمكّن أي كيان من الصمود ضمن شبكة النفوذ السوري المتحركة.
من يهدف إلى أن يكون فاعلاً في مستقبل سوريا، عليه أن يتحول من مستهلك للموقع إلى منتِج للمعنى. فالهوية، كما الشرعية، لم تعد مرتبطة برفع الراية، بل بتوقيع العقود، وتوليد الدخل، وتحقيق الاتصال الفعلي بالعالم المتغير. الجغرافيا التي لا تُفعّل، تتحول إلى فراغ في الحسابات. والكيان الذي لا يُنتج، يُدار باسمه دون حضوره..

الشرعية الجديدة: الاستثمار كأداة لإعادة ترسيم الجغرافيا السورية
تشير التحولات الجارية إلى أن مفهوم السلطة في سوريا لم يعد يُعرَّف من خلال السيطرة الميدانية أو الخطاب السياسي، بل من خلال القدرة على تفعيل الجغرافيا في إطار اقتصادي-مؤسسي. في هذا السياق، تتجاوز دمشق الطور الكلاسيكي لما بعد الحرب، لتدشّن نمطاً جديداً من إعادة التموضع السيادي: سلطة تُقاس بمدى الاندماج في السوق، لا بمدى امتلاك المعابر.
ففي نموذج الدولة المركزية، تتكثف أدوات الشرعية اليوم في إدارة الموارد، واستقطاب الشراكات، وإعادة تشغيل مؤسسات الدولة على أساس إنتاجي. هذا ليس مجرد تحوّل في الأولويات، بل تحوّل في تعريف الدولة نفسها، من كيان وظيفته الدفاع والبقاء، إلى كيان وظيفته التمكين وإعادة التوزيع والربط الاقتصادي الإقليمي.
ما يجري في دمشق لا يُقرأ كمجرد نشاط تنموي، بل يُمثّل استراتيجية لإعادة بناء الشرعية. الدولة المركزية تتحوّل تدريجياً إلى فاعل اقتصادي نشط، يُعيد تعريف موقعه الإقليمي والدولي من خلال الاقتصاد، لا من خلال الشعارات أو المواجهة.
الاستثمار بات أداة سيادية ناعمة، تستبدل منطق الردع بمنطق الجذب، وتنقل دمشق من موقع الدولة التي تطلب الدعم، إلى موقع الدولة التي تُعرض فيها فرص الشراكة وتُبنى فيها شبكات المصالح. فميناء طرطوس لم يعد مرفقاً خدمياً، بل أصبح عقدة في شبكة بحرية ذات امتداد إقليمي. ومحطات الكهرباء والسكك الحديدية لم تعد مجرد مشاريع، بل آليات لتثبيت الفاعلية الاقتصادية كشرط ضروري لمعادلة الحكم.
في الجهة المقابلة من البلاد، تقف الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا خارج هذه المعادلة. رغم امتلاكها لموارد كبيرة واستقرار نسبي، لم تُفعّل أدوات الاستثمار، ولم تُدرج نفسها في خريطة الشراكات أو العقود. لا توجد هيئة اقتصادية عليا تمثّل المنطقة، ولا سياسة استثمار واضحة، ولا قانون يُغري شركاء محتملين أو يطمئن فاعلين دوليين. غياب الرؤية لم ينتج عن حصار خارجي، بل عن افتقار داخلي للقرار الاستراتيجي الذي يحوّل السيطرة إلى مشروع.
الإدارة الذاتية تدير الأرض بوصفها حيزاً يُستوعب أمنياً، لا بوصفه مشروعاً يمكن تحويله إلى مصدر للشرعية والسيادة التفاوضية. المؤسسات القائمة تتسم بالطابع الخدمي أو الرمزي، وتفتقر إلى ديناميكية اقتصادية توصلها بالعالم. وهذا يضعها على هامش لحظة التأسيس الجديدة، حيث لا تكفي السيطرة الميدانية ما لم تُرفق بقدرة تشغيل وتنمية وربط.
السيادة اليوم تُقاس بمدى القدرة على إدخال الكهرباء، إصلاح المدارس، تشغيل المرافئ، وتوقيع العقود التي تبني وظائف لا مجرد شرعيات مؤقتة. الجغرافيا التي لا تُشغَّل لا تُحسب، والمناطق التي لا يُمكن إدراجها ضمن خطوط البنى التحتية الوطنية تُصبح في موقع التهميش الذاتي. من لا يصوغ مشروعاً اقتصادياً، لا يُستشار حين يُعاد توزيع الأدوار.
ما تشهده سوريا هو تحوّل الجغرافيا من مسرح صراع إلى ساحة تنافس على التنمية. من يربط الأرض بالشبكات، بالأسواق، بالعقود، هو من يرسّخ وجوده، لا من يكتفي بإدارتها بوسائل إدارية تقليدية. مرحلة “من يفرض سيطرته” دخلت نهايتها، والمرحلة المقبلة هي لمن يُفعّل هذه السيطرة تنموياً ويجعل منها عقدة لا يُمكن تجاوزها.
وفي هذا المشهد، فإن غياب الإدارة الذاتية عن مسارات التنمية لا يُفسَّر كحالة حياد، بل يُقرأ كموقع ضعف استراتيجي. فالخريطة الاقتصادية تُرسم الآن، ومن لا يضع بصمته فيها، سيجد نفسه يوماً ما خارج الحسابات، مهما كان حجم سيطرته على الأرض.

في شرق الفرات: غياب الرؤية في زمن الفرص
رغم أن شرق الفرات يمتلك طيفاً واسعاً من المقومات التي تؤهله للعب دور اقتصادي وسياسي محوري في مشهد سوريا الجديد من الموارد الطبيعية إلى الاستقرار الأمني والهيكل الإداري المستقر نسبياً إلا أن هذه الإمكانات ما تزال حبيسة نمط إدارة محافظ يكتفي بضبط الواقع بدلاً من توظيفه. لا يعود هذا الجمود إلى غياب التمويل أو الحصار السياسي فحسب، بل إلى ضعف التفعيل المؤسسي من الداخل: هيئات غير موحدة وظيفياً، تداخل في صلاحيات اللجان والمجالس، وغياب مرجعية تنفيذية تمتلك رؤية استراتيجية متماسكة.
المشكلة لا تكمن فقط في غياب المشاريع الاستثمارية الكبرى، بل في غياب البنى التحتية التشريعية والتنفيذية التي تجعل من أي مشروع محتملاً. فحتى اليوم، لا توجد خريطة اقتصادية للمنطقة، ولا هيئة مختصة بصياغة الشراكات أو عرض فرص الاستثمار، ولا قانون حديث يمكنه مخاطبة السوق بلغة المفاضلة والضمانات. هذا الفراغ القانوني، حين يقترن بنمط إداري يفتقر إلى المهنية التقنية، يُنتج سلطة بلا أدوات تفاوض.
الأخطر أن هذا الغياب المؤسسي لا يُنتج فقط عزلة خارجية، بل يُراكم هشاشة داخلية. فالشباب المتعلم يفتقر إلى منصات تدريب مهني أو مشاريع ناشئة تحتضن المهارات. والموارد الزراعية تُدار بأدوات تقليدية، دون ربطها بممرات التصدير أو استراتيجيات التحول الإنتاجي. وحتى الإيرادات الناتجة عن الضرائب أو المعابر لا تتحول إلى مشاريع خدماتية تراكم الثقة المحلية. باختصار، تتآكل قدرة السلطة على تقديم عائد ملموس للسكان، وهي تفتقد إلى الأدوات التي تجعل من إدارتها قيمة مضافة لا مجرد بنية ضبط.
في مشهد تُكتب فيه خريطة النفوذ من خلال الربط الاقتصادي ومشاريع التنمية، فإن استمرار شرق الفرات في إدارة واقع مستقر دون أفق إنتاجي واضح، لا يحمي موقعه، بل يجعله أكثر عرضة لإعادة التصنيف. ليس كموقع هامشي فحسب، بل كمجال إداري مؤقت لا يُبنى عليه، ولا يُفاوض به، ولا يُدرج في صياغة مستقبل الدولة.

ما بعد الانغلاق: اختبار الشرعية الوظيفية والتنمية كشرط للبقاء السياسي في شرق الفرات
في بيئة سياسية تتغيّر فيها معايير الشرعية من شعارات التمثيل إلى مؤشرات الفاعلية، يصبح النموذج الإداري للإدارة الذاتية في شرق الفرات أمام اختبار مزدوج: هل يستطيع الصمود كمؤسسة حاكمة؟ وهل يملك الأدوات التي تسمح له بالبقاء داخل منظومة الدولة القادمة؟ فالمسألة لم تعد تقتصر على البقاء، بل على من يمتلك الكفاءة الوظيفية التي تمنحه مكاناً في معادلة مراكز القرار، لا مجرد موطئ قدم في الجغرافيا.
في هذا السياق، تتكثف تحديات الإدارة الذاتية حول هشاشة بنيتها التنفيذية. فلا رئاسة حكومة فعلية، ولا جهاز تخطيط اقتصادي ذي صلاحيات، ولا إطار قانوني منظم يربط السلطات ببعضها وفق آليات رقابة وتشريع ومحاسبة. ما يزال التنظيم التشريعي غائباً تقريباً، والمجالس تُدار بمفهوم تمثيلي واسع لكنه غير وظيفي، ما يخلق فراغاً يصعُب ملؤه في سياقات التفاوض أو إعادة الإعمار أو حتى تقديم المشاريع.
في المقابل، تتقدم الحكومة المركزية بقيادة أحمد الشرع ببطء، ولكن بثبات، ضمن نموذج براغماتي يُركّز على إعادة تعريف الدولة بوصفها “جهاز تشغيل” يرتكز على ربط البنية التحتية، تحرير الحوافز الاستثمارية، وتوقيع اتفاقيات ذات طابع تنموي لا سياسي فقط. الشرع يدير مؤسسات الدولة كمساحات عرض لقابلية التفاوض، في حين ما تزال الإدارة الذاتية تُدير مؤسساتها كمساحات تمثيل رمزي، دون تحويل التمثيل إلى قدرة تنفيذية تُنتج الثقة لدى الداخل والخارج.
لا يمكن البقاء في عقلية الطوارئ، بينما الدولة المركزية تتقدّم عبر أدوات التخطيط والبنية التحتية وربط المصالح.
غياب “الشرعية الوظيفية” في شرق الفرات لا يعني فقط ضعف الثقة الإقليمية، بل يعمّق من الشعور بعدم اليقين المحلي. فالسكان، في نهاية المطاف، لا يُقيّمون السلطة من خلال الشعارات، بل من خلال مدى تحسّن الخدمات، وإمكانية الوصول للفرص، وإحساسهم بأن هناك إدارة تُحوّل الإمكانات إلى مستقبل. وعندما تفتقر السلطة إلى أدوات الإنتاج، تفقد قدرتها على المطالبة بالمكانة أو الدفاع عن استمراريتها.
والأهم، أن هذا النموذج غير القابل للاستثمار لا يُطمئن الشركاء الإقليميين أو المؤسسات المالية التي تبحث عن استقرار إداري، ووضوح تشريعي، وقابلية للمأسسة. فلا منصة استثمارية متخصصة، ولا هيئة رقابة مالية مستقلة، ولا حتى قاعدة بيانات اقتصادية رسمية تُبنى عليها استراتيجيات أو مفاوضات.
في لحظة سورية تُرسم فيها خريطة النفوذ من خلال العقود لا التحالفات، ومن خلال التخطيط لا الولاء، تصبح الشرعية وظيفةً قابلة للقياس، لا هوية يُفترض بها أن تحمي نفسها بنفسها. ومن لا يمتلك هذه الوظيفة، سيفقد، تدريجياً، حتى موقعه الرمزي، حتى وإن امتلك الأرض والسلاح.

التوصيات: نحو تحوّل مؤسسي فعّال في شرق الفرات
تشير المعطيات الراهنة إلى أن الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تجاوزت منذ سنوات مرحلة إثبات الوجود، لكنها لم تدخل بعد إلى دائرة الفاعلية التنموية أو المؤسسية. لقد تَحقَّق شكل من أشكال السيطرة الإدارية، وتم بناء نموذج إداري بديل في لحظة فراغ، لكن هذا النموذج، رغم تماسكه البنيوي في حدوده الدنيا، لم ينجح حتى الآن في تحويل تلك السيطرة إلى مشروع سياسي واقتصادي قابل للاستمرار، أو يُحتسب كعنصر أساسي في هندسة سوريا ما بعد النزاع.
في المقابل، تمضي الحكومة المركزية في دمشق بخطى ثابتة، وتعيد تموضعها داخليًا وخارجيًا عبر أدوات التنمية والاقتصاد والبنية التحتية. يتم ترسيخ شرعية الدولة عبر المشاريع لا الشعارات، وعبر عقود الطاقة لا الخطابات، فيما تُعيد دمشق نسج علاقاتها الإقليمية والدولية على قاعدة المصالح المتبادلة، ضمن خريطة جديدة تُرسَم بهدوء، ولكن على أسس غير قابلة للتراجع.
من دون رقمنة حقيقية، ومنظومة حوكمة شفافة، واستثمار في الجاليات والخبرات والكفاءات، سيبقى نموذج شرق الفرات محصورًا في إدارته المحلية.
في هذا السياق، تواجه الإدارة الذاتية تحديًا وجوديًا لا يرتبط بالمخاطر العسكرية، بل بانكماش وظيفتها السياسية في بيئة تتجه بثبات نحو منطق الإنتاج والربط والتشغيل. فبينما يُعاد تعريف الدولة السورية كمؤسسة اقتصادية سيادية، تظل الإدارة الذاتية محصورة في أدوار إدارية ذات طبيعة محلية، دون توسعة حقيقية نحو الفعل الاقتصادي أو التفاوض الإقليمي أو حتى تطوير نموذج داخلي يمكن تسويقه بوصفه بديلاً فعّالًا في منطقة تتمتع بموارد استراتيجية واستقرار نسبي.
الفراغ لا ينتظر، والمكان الذي لا يُشغَل من الداخل يُملأ من قبل أطراف أخرى. وحين لا تتحول الإدارة إلى كيان إنتاجي، مؤسسي، قادر على التفاوض، فإنها تصبح، بمرور الزمن، هيكلًا شكليًا يُدار كأمر واقع لا كشريك فعلي في المعادلة السورية. إن السلوك السياسي والإداري الحالي الذي يستمر في إدارة الموارد والسلطة عبر أدوات تنظيمية مغلقة، وعقلية مركزية متمسكة بالشكل دون تطوير للأداء، يجعل من المشروع الحالي مرشحًا للتآكل الهادئ، لا بفعل الصراع، بل بفعل الجمود.
التحول المطلوب في هذه المرحلة لا يتطلب تغيير الهوية السياسية، ولا التنازل عن الأطر التمثيلية التي شُيّدت منذ 2014، وإنما يتطلب إعادة صياغة النموذج نفسه ليصبح قابلاً للتشغيل، للتفاوض، وللاستثمار. إدارة الأرض لا تكفي، ما لم تكن مقرونة بقدرة على إنتاج الوظائف، وتحفيز رأس المال، وفتح الأسواق، وتقديم البنى التحتية كمنصات تنموية قابلة للربط بسوريا الأوسع، وبالمنطقة الجيوسياسية المحيطة.
إن النوافذ التي تفتحها مرحلة ما بعد النزاع لا تدوم طويلًا، وهي ليست مفتوحة بالضرورة لكل من يطالب بالدور، بل لمن يقدّم نفسه كجهة فاعلة تحمل مشروعًا قابلاً للتنفيذ. ومن لا يملك لغة المؤسسات، ولا يتحدث بمنطق السياسات العامة، ولا يعرض هيكلًا قانونيًا أو اقتصاديًا متكاملاً، لن يُستقبل في غرف إعادة الإعمار، ولن يُؤخذ بعين الاعتبار في المراحل اللاحقة من التفاوض السياسي أو الشراكات الاقتصادية.
وبناءً عليه، فإن التوصية العامة التي يمكن استخلاصها من هذا التقييم ليست في الدعوة إلى الاندماج الكلي مع المركز، ولا في العودة إلى صيغ الدولة المركزية التقليدية، بل في ضرورة إنتاج نموذج قابل للحياة، متماسك داخليًا، ومنفتح خارجيًا، يُمكن الدفاع عنه لا فقط بالخطاب، بل بالأداء. النموذج الذي يمكن أن يُثبت أنه يخلق استقرارًا منتجًا، وبيئة جاذبة، ومؤسسات مستقلة قادرة على التفاعل مع المنظومة الأوسع، سيكون له مكان في المعادلة. أما النموذج الذي لا ينتج سوى الإدارة اليومية، دون تخطيط، دون شراكات، دون منظومة استثمار، فسيبقى مشروعًا تحت التجميد، مهما كان حجم شعبيته أو قوته العسكرية.
المرحلة المقبلة ستُبنى على أساس الإنجاز، لا على أساس الخطابة. من يملك القدرة على تنفيذ مشروع، على إدارة مرفق، على توقيع عقد قابل للتنفيذ، هو من سيكون طرفًا في توزيع السلطات والموارد. ومن لا يملك هذه القدرة، سيتحول تلقائيًا إلى حالة هامشية، تُدار بدلاً من أن تُدير، وتُموَّل بشروط لا تملك حق صياغتها.
إن شرق الفرات يملك ما يكفي من الموارد، والموقع، والبنية الاجتماعية، ليكون فاعلًا استراتيجيًا. لكن ذلك لن يتحقق ما لم يُغيّر من مقاربته للمسؤولية السياسية. ما لم يتحول إلى جهة قادرة على مخاطبة الداخل بلغة التنمية، ومخاطبة الخارج بلغة المصالح، سيبقى مشروعه السياسي محصورًا في الحيّز المحلي، يُعاد تعريفه في كل مرحلة من الخارج، دون أن يمتلك زمام المبادرة من الداخل.
بهذا المعنى، لم تعد القضية: هل للإدارة الذاتية حق في البقاء؟ بل: هل لديها أدوات البقاء؟ وهل تقدّم نفسها بوصفها قيمة مضافة للنظام السياسي السوري المقبل، أم تظل بوصفها حالة خاصة تُدار على الهامش؟ الإجابة على هذا السؤال لا تُحسم في المؤتمرات أو البيانات، بل في عدد المشاريع، ونوع الشراكات، ومدى تكامل المؤسسات، واستعدادها للربط بمنظومة ما بعد النزاع.
ومن لا يبدأ هذا التحوّل الآن، لن يكون مدعوًا إلى المشاركة لاحقًا.