ريان معروف – كاتب ومحلل سياسي تنويه: الآراء الواردة في هذا المقال تعود إلى كاتبها ولا تعبّر بالضرورة عن موقف منصة رادار سوريا أو توجهاتها التحريرية. في أخطر ما نُشر من خطابات رسمية موازية خلال الساعات الأخيرة، خرج محمود الطرن، المعروف بصلاته الوثيقة بدوائر صنع القرار في حكومة أحمد الشرع، ليقدم دفاعًا مبطّنًا وممنهجًا عن المداهمات المسلحة التي نفذتها مجموعات أمنية تابعة لما يُعرف بـ"أمن الجولاني" على مطعم ليالي الشرق في قلب العاصمة دمشق. لم تكن تصريحاته ناتجة عن اجتهاد فردي، بل جاءت كامتداد لخطاب سلطوي جديد يسعى لإعادة تشكيل أسس الدولة والمجتمع، بعيداً عن القانون ومؤسسات العدالة. في سلسلة تغريدات متزامنة مع تصاعد الغضب الشعبي على مواقع التواصل الاجتماعي، ظهر الطرن وكأنه الناطق غير الرسمي باسم سياسة الردع العقائدي، مقدماً تبريرات قانونية ملتوية لما لا يمكن وصفه إلا بعملية اقتحام عنيفة ومدروسة ضد أحد الأماكن العامة في العاصمة. المشهد الذي تم توثيقه بالفيديو وشهادات شهود عيان أظهر اعتداءات جسدية مباشرة على رجال ونساء داخل مطعم مدني، تحت ذرائع فضفاضة مثل "الاختلاط" و"السهر" و"الفساد الأخلاقي". وبدلاً من إدانة هذه التصرفات التي تمسّ بشكل مباشر كرامة الإنسان وحقوقه، اختار الطرن أن يشرّع الاعتداء، لا من موقع الفعل الأمني فحسب، بل من موقع التنظير القانوني، مقدماً رؤية مشوهة وخطيرة لكيفية "ضبط المجتمع". خطابه لم يكن تحليلاً بقدر ما كان محاولة لتقنين العنف، وإظهاره وكأنه امتداد طبيعي لسلطة الدولة، في حين أن الجهة المنفذة للعملية لا تنتمي لأي مؤسسة قضائية شرعية. الأخطر من ذلك، كان إصراره على أن "إغلاق الأماكن" لا يحتاج إلى أوامر قضائية في حالات "المخالفات الأخلاقية"، متبنياً بذلك منطقاً ثيوقراطياً يرى أن الشريعة الحزبية أعلى من القانون، وأن الفصائل المسلحة يمكن أن تمارس وظيفة الدولة بناءً على شكاوى غير موثقة أو تقييمات ذات طابع ديني. هذا التواطؤ بين اللغة التحليلية والشرعية الموازية هو بالضبط ما يشكل نقطة التحول الأخطر نحو نموذج حكم مغلق، يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن على أسس دينية قمعية. إن الدفاع عن المداهمة لم يكن مجرد تبرير لحادثة، بل إعلان صريح بأن ما يُبنى اليوم في دمشق ليس دولة قانون، بل كيان جديد يقوم على الردع الأخلاقي، والعنف المنظم، ومصادرة الفضاء العام لصالح منظومة قيم تفرضها سلطة دينية مسلحة. وجود النوادي المخلة بالاداب وسط الأحياء السكنية مشكلة عانينا منها لسنوات، ولا يرضى أحد بوجودها عشوائياً أو رغما عن الناس. نقطة الخلاف هي في كيفية التخلص منها؟ الطريقة الوحيدة هي عبر تقديم عريضة رسمية للمحافظة ومتابعة الموضوع واستحصال أمر رسمي باغلاقها وتنفيذه حسب الأصول. أما…— Mahmoud Toron محمود الطرن (@MT77W) May 4, 2025 مداهمة مطعم ليالي الشرق لم تكن حادثة طارئة، بل لحظة مفصلية في إعادة تعريف الفضاء العام في سوريا. وفي ظل غياب الردع ووجود شخصيات مثل الطرن تمنح الغطاء الإعلامي والفكري لهذه الانتهاكات، يصبح من الممكن جداً تصور تكرار هذا النموذج في مختلف المدن، لتصبح كل مؤسسة أو نشاط لا ينسجم مع خطاب الفصيل الحاكم عرضة للمداهمة، والمجتمع كله رهينة لسلطة لا تحتكم إلا للعقيدة ومزاج القوة. الطرن، بدلاً من أن يكون صوتاً للمحاسبة والضبط القانوني، اختار أن يكون مدافعًا شرسًا عن تجاوز الدولة لنفسها، وأن يتحول إلى أداة تبريرية في خدمة مشروع سياسي يهدد الهوية السورية الحديثة، ويقود البلاد نحو نموذج حكم أقرب إلى تجربة طالبان في أفغانستان، حيث يُقاس السلوك العام بميزان العقيدة لا القانون، وتُدار الحياة اليومية تحت وطأة الرقابة الأخلاقية لا مؤسسات الدولة. إني لكم ناصح أمين…لكل دولة خصوصيات اجتماعية يجب احترامها، وخاصة في الفترات الانتقالية. على الدولة وأجهزتها أن تحرص على كسب ثقة الناس، لأن هذه الثقة تعزز هيبتها وتقوي سلطتها. التعامل مع شكاوى الناس بصورة حضارية ومنظمة، مثل إغلاق مكان مخل بالآداب بناءً على طلب الأهالي، سيرفع من…— Mahmoud Toron محمود الطرن (@MT77W) May 4, 2025 خطورة خطاب الطرن تتجسد في ثلاثة محاور رئيسية: تكمن خطورة خطاب محمود الطرن في أنه لا يعبّر عن رأي فردي معزول، بل يشكّل واجهة لنهج أيديولوجي موجه، يسعى لتقويض المفاهيم المدنية للدولة السورية، وإعادة تشكيلها وفق رؤية دينية مغلقة. ويمكن تفكيك هذا الخطاب من خلال ثلاث زوايا رئيسية تتجاوز الطابع التحليلي لتلامس جوهر التهديد القائم. أولًا، في تشجيع العنف المجتمعي باسم الأخلاق، يُقدّم الطرن نموذجًا خطيرًا لما يمكن وصفه بـ"العقيدة الميليشياوية المغلفة بالقيم". إذ يبرر استخدام القوة الغاشمة في مواجهة ما يسميه "الخلل الاجتماعي"، ويمنح ضوءًا أخضر لتدخل جماعات أمنية دينية في تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين، مستندًا إلى مفاهيم فضفاضة كـ"السهر" أو "الاختلاط". وهنا، يتم تجريف الفارق بين سلطة الدولة وسلطة الجماعة، ليُصبح الرد على السلوك الاجتماعي المختلف مسألة "أمنية"، تُعالج بالعنف لا بالقانون. ثانيًا، خطاب الطرن يؤدي بشكل مباشر إلى تفكيك مفهوم الدولة الحديثة. حين تُختزل سيادة القانون في "الرد على شكاوى الأهالي" دون الرجوع إلى القضاء، يتحول المجتمع إلى ساحة مفتوحة للتصفية الأخلاقية. الدولة، في هذه الحالة، لم تعد مرجعية عادلة بل باتت شاهدًا صامتًا أو حتى شريكًا ضمنيًا في تغوّل السلطة العقائدية. وهنا يتم نسف العقد الاجتماعي الذي يقوم على أن الدولة هي الضامن الوحيد للحقوق والحريات، ويتم استبداله بحكم ديني عقابي لا يعترف بالفرد ككيان مستقل، بل كعنصر يجب إعادة ضبطه وترويضه تحت سلطة الجماعة. أما ثالثًا، فهي الزاوية الأكثر خطورة: إعادة هندسة المجتمع السوري على أسس ثيوقراطية. الطرن لا يكتفي بالدفاع عن ممارسات فردية بل يسعى إلى ترسيخ نموذج سلطوي شمولي، يجعل من العنف أداة لإعادة صياغة الحياة العامة وفق منظومة دينية متشددة. في رؤيته، لا مكان لحرية التعبير، ولا لمؤسسات مستقلة، ولا لقضاء نزيه. كل شيء يخضع لـ"الحسبة" الدينية، وكل خروج عن هذا الإطار يُقابل بالإقصاء أو العنف. وبهذا، يُسهم الطرن بصفته التحليلية في تمهيد الطريق نحو نموذج حكم شبيه بأفغانستان تحت طالبان، نموذج يُقصي المرأة، ويقمع التنوع، ويُعيد المجتمع إلى مربع الطاعة المطلقة. المحاسبة ليست خياراً تجميلياً في مرحلة انتقالية كهذه، بل ضرورة وجودية تمس صلب مشروع الدولة. التغاضي عن خطابات كخطاب محمود الطرن لا يعني فقط منحها مساحة إضافية للانتشار، بل يعني أيضاً توفير غطاء ضمني لمن يسعون لتقويض أسس العدالة والمؤسسات. حين تتحول منصات التحليل السياسي إلى أبواق تبرر انتهاك كرامة الإنسان، وتُلبِس الممارسات الميليشياوية لباس الشرعية الأخلاقية، نكون قد دخلنا فعلياً في مسار لا يهدد الحريات فقط، بل يقضي على إمكانية وجود مجتمع متماسك يحكمه القانون. ما يحدث اليوم ليس خلافاً سياسياً عابراً، بل معركة وجودية على شكل الدولة. فإما أن تمضي سوريا نحو دولة مدنية حديثة تُدار بمؤسسات تحمي الحقوق وتصون الكرامة، أو يُترك المجال لسلطة دينية عقائدية تبني شرعيتها على التخويف، وتُعيد تشكيل الفضاء العام على مقاس جماعات مغلقة تُقصي الآخر، وتقمع كل ما لا يتوافق مع خطابها الأحادي. هذه ليست تحذيرات نظرية، بل إشارات حقيقية إلى خطر الانزلاق نحو نموذج أفغاني لا يشبه السوريين ولا يعبر عن تطلعاتهم.