خلق الكراهية كأداة لإدارة الشعوب، سوريا نموذجًا

في تاريخ إدارة الشعوب، لطالما كانت الفتنة والتقسيم أدوات فعالة في يد الحكام للسيطرة على مجتمعاتهم. من خلال زرع بذور الكراهية بين المكونات الاجتماعية – سواء كانت دينية، قومية، أو مناطقية – يتمكن النظام من تحويل الشعب الواحد إلى أطراف متناحرة، ليصبح هو الملاذ الوحيد في خضم الفوضى التي صنعها.
في سوريا المعاصرة، يبرز اسم أبو محمد الجولاني كمثال حي لهذه الاستراتيجية، حيث يقوم بتأجيج الصراعات الداخلية تحت غطاء نزعات قومية ودينية، لكن ببرنامج يخدم مصالح تركية أعمق.
فكيف يمكن للكراهية أن تتحول إلى أداة نفسية وسياسية لتفتيت شعب وإخضاعه؟
الإطار النظري في علم النفس
في علم النفس الاجتماعي، تُعدّ نظرية الهوية الاجتماعية (Social Identity Theory) واحدة من أبرز الأطر التي تفسر كيف يمكن للانتماءات الجماعية – سواء دينية، قومية، أو مناطقية – أن تتحول إلى أدوات للصراع.
وفقًا لهذه النظرية، التي طوّرها هنري تاجفيل في سبعينيات القرن الماضي، يميل الأفراد إلى تعزيز هويتهم الجماعية من خلال تمييز “نحن” عن “هم”، مما يخلق أرضية خصبة للتحيّز والعداء.
عندما يتم استغلال هذا الميل من قِبل قادة سياسيين أو دينيين، يتحول الانقسام إلى أداة تلاعب جماعي (Group Manipulation)، حيث يتم توجيه الغضب والخوف نحو “الآخر” المُختلَف.
تلعب الدعاية هنا دورًا حاسمًا في تضخيم الشعور بالتهديد، مما يدفع الأفراد إلى تبني مواقف متطرفة لحماية هويتهم أو الثأر لها. على سبيل المثال، عندما يتم نشر فكرة أن مكونًا معينًا يتحمل مسؤولية “جرائم تاريخية”، كما في حالة الادعاءات عن “هولوكوست سني” في سوريا، يتم تحفيز الغرائز الانتقامية التي تتغذى على الذاكرة الجمعية.
هذه العملية ليست عفوية، بل تُصمَّم بعناية لخدمة أهداف سياسية، حيث يصبح العنف وسيلة لتعزيز السيطرة بدلًا من حل النزاع.
سوريا كدراسة حالة
في سوريا، يمثل أبو محمد الجولاني نموذجًا بارزًا لاستخدام هذه الاستراتيجية النفسية والسياسية.
من خلال خطاباته وتحركاته، يعمل على تأجيج الفتنة بين المكونات السورية بطريقة تبدو نابعة من نزعات دينية أو قومية، لكنها في جوهرها تتماشى مع أجندة تركية تهدف إلى إضعاف الوحدة السورية.
على سبيل المثال، في مؤتمر بروكسل، أعلن وزير خارجيته، الشيباني، علنًا أن مليونًا ونصف المليون من السنة قُتلوا على يد الأقليات العلوية، وهو تصريح يهدف إلى تعميق جرح الانقسام الطائفي.
لم يكتفِ الجولاني بذلك، بل سبق هذا الخطاب تجييش مئات الآلاف من المتطرفين السنة لشن هجمات على الساحل السوري، مدعومة بفتاوى جهادية تحرّض على الثأر لـ”الظلم التاريخي”.
في الوقت ذاته، يستهدف الجولاني مكونات أخرى مثل الأكراد وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مستخدمًا مصطلحات مثل “الملاحدة” لتشويه صورتها وتحويلها إلى عدو مشترك في أذهان المكونات الأخرى.
حتى الدروز في جبل العرب لم يسلموا من هذا التحريض، حيث يتم تصويرهم كتهديد محتمل لتبرير التدخل أو العنف ضدهم.
والأكثر إثارة للقلق هو استهداف المكون السني المعتدل نفسه. من خلال وسم “الصامتين على جرائم النظام السابق”، يسعى الجولاني إلى إسكات الأصوات الرافضة لتطرفه، متهمًا إياها بالتواطؤ التاريخي.
هكذا، يتحول كل مكون – حتى داخل الطائفة الواحدة – إلى هدف للكراهية، مما يخلق حالة من الفوضى الشاملة.
آلية عمل الكراهية النفسية
في جوهرها، تعتمد استراتيجية خلق الكراهية على استغلال الغرائز الإنسانية الأساسية: الخوف، الغضب، والرغبة في الانتقام.
يتم زرع هذه المشاعر عبر خطابات متكررة تُعزز فكرة الظلم التاريخي أو التهديد الوجودي.
في حالة سوريا، يتم الترويج لرواية “الهولوكوست السني” كأداة لتحفيز الذاكرة الجمعية، حيث يُصوَّر كل فرد من الأقليات – خاصة العلويين – كمسؤول عن مأساة مزعومة.
هذا النوع من التلاعب يعتمد على مبدأ “التعميم السلبي” (Negative Stereotyping)، حيث يتم اختزال مكون بأكمله إلى رمز للشر، مما يبرر العنف ضده.
الدعاية تلعب دورًا مركزيًا هنا. من خلال الفتاوى الجهادية والخطابات التحريضية، يتم تحويل الغضب الفردي إلى فعل جماعي، كما حدث في تجييش نصف مليون متطرف لارتكاب مجازر الساحل.
لا تكتفي هذه العملية بإثارة العنف، بل تزرع شعورًا بالواجب الأخلاقي للثأر، مما يجعل المشاركين يشعرون أنهم يحققون العدالة بدلًا من ارتكاب جريمة.
يُضاف إلى ذلك تعزيز الخوف من “الآخر” – سواء كانوا أكرادًا، دروزًا، أو حتى سنة معتدلين – عبر أوصاف مثل “الملاحدة” أو “المتواطئين”، مما يدفع كل مكون إلى الدفاع عن نفسه بأي وسيلة.
ما يجعل هذه الآلية فعالة هو قدرتها على استهداف العقل الباطن.
عندما يتعرض الفرد لرسائل متكررة عن الخطر أو الظلم، يتحول الشك إلى يقين، والخوف إلى عداء. هذا التلاعب النفسي يُضعف التفكير النقدي، ويجعل الجماهير أكثر عرضة للتحريض.
الهدف السياسي: النظام كـ”صمام أمان”
الهدف النهائي من هذه العملية ليس مجرد إثارة الفوضى، بل استخدامها كأداة لتعزيز سلطة النظام أو الكيان الذي يقف وراءها.
في سوريا، يسعى الجولاني – بدعم تركي – إلى دفع المكونات السورية إلى حافة الانفجار، ليظهر هو أو حلفاؤه كـ”الحامي” الوحيد القادر على ضبط الأمور.
عندما يصبح الاقتتال بين السنة والعلويين، أو الأكراد والعرب، أو الدروز وغيرهم أمرًا محتملاً، يتحول وجود النظام إلى ضرورة ملحة في أعين الجميع، حتى أولئك الذين يعارضونه.
هذه الاستراتيجية ليست جديدة. فقد استخدمت الأنظمة الفاسدة عبر التاريخ الفوضى المنظمة لتبرير قمعها، مقدمة نفسها كـ”صمام أمان” يحمي الأرواح من الشر المحقق.
في حالة الجولاني، يتم تصوير المعارضين له – خاصة المعتدلين – كخونة أو ضعفاء، مما يُسكت أصوات الرفض ويعزز شرعيته كقائد لا غنى عنه.
النتيجة هي حلقة مفرغة:
الكراهية تؤدي إلى العنف، والعنف يبرر السيطرة، والسيطرة تغذي المزيد من الكراهية لضمان استمرار النظام.
في النهاية
الكراهية، كما نرى في الحالة السورية، ليست مجرد شعور عفوي، بل أداة نفسية وسياسية تُصمَّم بعناية لتفتيت الشعوب وإخضاعها.
من خلال استغلال الانقسامات الدينية والقومية، وتأجيج الخوف والانتقام، يتمكن قادة مثل الجولاني من تحويل مجتمع متنوع إلى ساحة صراع دائمة، يظهرون فيها كالحل الوحيد للنجاة.
لكن هذه الاستراتيجية، رغم فعاليتها، ليست محصنة.
الوعي بآلياتها – سواء من خلال فهم التلاعب النفسي أو كشف الأجندات السياسية – يمكن أن يكون الخطوة الأولى نحو تفكيكها.
إن الوحدة، وليس التقسيم، هي ما يهدد الأنظمة الفاسدة حقًا، وهنا تكمن المسؤولية على كل فرد لرفض خطاب الكراهية واستعادة نسيج شعبه.