العريضي: هذا الخطاب ليس للقاتل… بل للشهود من أصحاب الضمائر

الدُّكتور يَحيى العَرِيضي – سِياسيّ وأَكادِيميّ سُوريّ
ليست السويداء أو غيرها من المدن المكلومة بصدد مخاطبة يد ملوثة بالدماء، ولا هي التي ترجو من قاتلها أن يصغي إليها، فهي لا تخاطب جلاّد أو آمر بالاستباحة والقتل والتدمير، ولا تناشد غدّار أو مَن يزهق الأرواح، ثم يقف ليشرح معنى الوطن والوطنية. الخطاب موجه للسوريين الشهود على جريمة ارتكبها المستبد الجديد؛ موجه إلى الذين يسألون: لماذا يرفع بعض أهل السويداء علم إسرائيل، أو يطالبون بالانفصال.
السويداء تسألكم قبل أن تحكموا، أن تقارنوا بين ما حدث على أرضها وبين ما ورد في الإعلان الدستوري من التزام الدولة بتحقيق التعايش والحفاظ على السلم الأهلي ومنع الفتنة والتحريض على العنف. قارِنوا ذلك مع تحريضه على السويداء وأهلها بشنَّ حرب إبادة عليهم. تأملوا نصوص إعلانه الدستوري التي تتضمن الالتزام بمكافحة جميع أنواع التطرف العنيف، واحترام الحقوق والحريات،ثم قارنوها بدمج آلاف الإرهابين في صفوف المؤسسة العسكرية والأمنية، و ما جرى من إعدام للمدنيين، وقتل جماعي، وحرق للمنازل، ونهب للممتلكات. قارنوا ما تم الإعلان عنه في تشكيل جيش وطني محترف، بما قام به هذا الجيش أمام الكاميرات من قتل وإجرام.
السويداء تسأل ضمائركم أن تقارنوا بين ما أُعلن عنه من كفالة لحرية الرأي والتعبير، وبين ما جرى من تخوين وتحريض وشيطنة كل رأي مخالف للمستبد الجديد. تسأل السويداء ضمائركم أن تقارنوا بين نصوص الإعلان الدستوري عن الالتزام بصون حرمة الحياة الخاصة، وبين ما جرى من إزهاق للأرواح في الطرقات والساحات، وحصار ممنهج وتجويع.
هل هذا إعلان دستوري، أم إعلان سلطة لا تعترف إلا بالقوة، ولا ترى في الاختلاف سوى خيانة؟ اسألوا ضمائركم: هل تتقبلون أن يكون قاتلٌ هو قائد؟ أن يوسمَ شعبُ سوريا العريق ومكونها السني الأصيل بالإرهاب؟ إن التاريخ لا يحاكم فقط القتلة والمجرمين، بل الشهود أيضاً. والصمت ليس حياداً، حين تكون الجريمة بهذه الفداحة.
السويداء اليوم لا تشرح للقتلة الجدد لماذا تطلب الانفصال، بل تسأل السوريين: أليس من الأجدى أن تطالبوا أنتم بزوال من ارتكب الجرائم، لا أن تلوموا الضحية على رغبتها في النجاة؟! لقد ذُبِحَت السويداء مرتين: مرة بيد غاشم مستبد جديد لاهث خلف السلطة، ومرة بصمت مطبق أو بتخوين واتهام بالعمالة. والتاريخ لا يفرق بين من أطلق النار، ومن قال “ربما يستحقون ذلك”.
ربما لم يسأل السوريون أنفسهم، لماذا طالبت السويداء بالانفصال؟ السؤال كان فقط حول مقومات انفصالهم؟ ومقومات دولة مستقلة يطالبون بها. لكن، هل يدرك السوريون أن أبناء السويداء يعلمون تماماً أن لا مقومات لانفصالهم عن سورية؟ جواب هذه المعضلة يكمن في أن الانفصال ليس غاية، بل لأنه آخر ما تبقّى حين سُدّت كل المنافذ، وضاق الأفق، وتمت شيطنة الوجود، وتحويل الهوية إلى تهمة، والانتماء إلى لعنة. لأن السويداء وُضعت أمام خيار وحيد… الوجود أو عدم الوجود.
المتسلطون، الذين تولوا زمام الأمور السياسية، كان من المفترض بهم أن يكونوا نقطة انعطاف في مسار بناء الدولة، لكنهم ما لبثوا أن تحولوا إلى مستبدين جدد، يعيدون نهج الطغيان القديم، ويكرسون منطق الإقصاء، ويلهثون خلف الخارج للبقاء في السلطة. هؤلاء المتسلطين، بنيّة متعمدة مبيتة، وبإملاء خارجي، فتحوا البوابة أمام مشروع تقسيم الوطن، وتدمير ما لم يستطع نظام الأسد تدميره، وضرب التنوع، وتفكيك النسيج الأهلي.
أيها السوريون… قفوا عند ضمائركم قليلاً قبل كيل الاتهام للسويداء وأهلها بالعمالة والخيانة..هل كانت السويداء ذاتها مشروع انفصال؟ لقد رفضت السويداء بأصالتها وامتدادها الوطني والعروبي دولة قدمها المستعمر الفرنسي إلى أبنائها في العشرينات من القرن الماضي، والتحمت أجساد أهلها مع أجساد كل السوريين في ثورة التحرير. 14 عاماً من حرب ضروس شنها الأسد على الشعب السوري، أبى أبناء السويداء الالتحاق بجيش الأسد حفاظاً على دماء أخوتهم، وفتحوا لهم أبواب منازلهم ضيوفاً وأخوة. 14 عاماً لم تحد السويداء عن مسار الوطن والهوية السورية، بل كانت تنادي بدولة مدنية، ودستور مدني، وحكم تشاركي تعددي. لكن الطغاة الجدد، بسلوك ممنهج، وضعوا السويداء أمام حتمية الإبادة أو حتمية الوجود، فبات الانفصال بالنسبة لها ليس خياراً سياسياً، بل رد فعل وجودي.
بالنسبة للسويداء المحاصرة، الجريحة بأيادي أبناء الوطن، المكلومة على أبنائها، والتي تقف على أطلال بيوتها المحروقة، لم يعد الحديث عن الوطن سوى ترف لغوي عندما ذُبح أبناؤها ببنادق الإرهاب، وبخذلان أخوتهم. واسرائيل، وهي خصم تاريخي، حين قامت باستهداف جحافل المستبيحين والغزاة الذين هاجموا السويداء بنية إبادة أهلها وإخضاعهم، يُرفع علمها لا حباً بها، بل لأن لا أحد غيرها أوقف تلك المجازر.
رُفع علمها ليس كموقف سياسي أصيل، بل كرد فعل من رغبة في البقاء والاحتماء. ليس مهماً مَن يحمي، فالمهم فقط البقاء.
إن رفع علم إسرائيل لن يُفَسَّر كفعل عابر، أو زلّة، بل كإعلان سياسي صارخ بأن السلطة فقدت شرعيتها في عين الفاعل؛ فهو عندما يلوّح براية تعتبرها السلطة رمزاً للعداء، فإنه لا يعلن الولاء للخارج بقدر ما يوجّه إدانة لهذه السلطة بأنها تحوّلت إلى قوة غريبة عنه أشبه بسلطة احتلال. لقد استغرب أخوة التراب من السوريين رفع ذلك العلم، لكنهم نسيوا رفع أعلام أخرى في مختلف الأمكنة السورية لدول تحتل أيضاً أرضاً سورية. أُدين أبناء السويداء بالخيانة، وتعامت أعين أشقائهم عن جرائم يندى لها الجبين، وغضت الأبصار عن سلطة فعلت ما فعلت لإيصال السويداء وسوريا إلى هذا الحال من التفرقة والشتات.
قد يفسر المتحاذقون ومن يصطادون في الماء العكر ما سبق على أنه تبرير وتبرئة. لكن هؤلاء مشمولون بالمتسلطين الجدد، في بوتقة واحدة، لا علاقة لهم بهذا الخطاب. فهم ليسوا من أصحاب الضمير الذي نسأله. هذا الخطاب تفكيك للسياق، وتفسير من منطق البقاء؛،منطق توصيف للحالة، ومفصول عن أيديولوجيات لم تكن يوماً أهلاً لتبني وطناً.
إن السويداء لم تطلب الانفصال من باب النزعة الانعزالية، بل لتذكير السوريين بأن وحدة الأرض لا يمكن أن تُبنى على أنقاض مكوناتها. وأن الطغاة الجدد، بسياساتهم الإقصائية الدموية، تُشكّل التهديد الأكبر لوحدة سوريا، لا الضمان لها. السويداء تدرك تماماً أنه لا مقومات للانفصال، وأن في السوريين أباة لن يتخلوا عنها، ولن يسمحوا لطاغية إرهابي أن يشوه تاريخ وحاضر ومستقبل هذا البلد.
إلى أبناء وطني على امتداد الجغرافيا السورية… إن القرار بالاصطفاف مع الوطن يقتضي الصبر والتضحية، إنني وكل حر على امتداد الأرض السورية، لم يقبل أن تتجزأ مبادئه الأخلاقية، رفضنا الظلم القديم و نرفض طاعة الاستبداد الجديد، أتوجه إليكم ببعض كلمات فقط… اسألوا ضمائركم قبل كل شيء…
هل الذين استهدفوا الثورة السورية وثوارها وفصائل الجيش الحر سابقاً، حريصون على الثورة؟ حريصون على سوريا وأهلها؟ هل الذين سلّموا الأراضي لسيطرة نظام الأسد وحلفائه من الإيرانيين حريصون على توحيد سوريا؟هل الذين أعادوا تدوير شبيحة النظام السابق لديهم النية الحقيقية ببناء دولة جديدة قوامها العدالة؟ هل الذين يتهافتون خلف استرضاء دول الخارج ليعقدوا معها الصفقات لديهم الإرادة للحفاظ على كرامة وهوية واستقلال السوريين؟ هل الذين ارتكبوا الانتهاكات الجسيمة والقتل والإجرام يريدون حقاً إنهاء عهد النظام البائد؟ ألم يتضح بعد أن هؤلاء المرتهنين قد قدموا الوطن وأرضه وأبناءه قرابين لبقائهم في السلطة؟ اسألوا ضمائركم بشكل مجرّد، فنحن أمام مفترق طرق.. أن تكون سوريا، أو لا تكون…