سَالِي عُبَيْد – باحثة في شؤون الانتقال السياسي والعدالة الانتقالية
الفيدرالية ليست شعارًا يُرفع في لحظة غضب، ولا بندًا يُضاف إلى لائحة مطالب في مفاوضات مع سلطة أمر واقع. الفيدرالية، في معناها السياسي العميق، هي إعادة هندسة النظام الدستوري، وإعادة توزيع السلطتين التشريعية والتنفيذية ضمن إطار عقد اجتماعي جديد يقطع مع المركزية القاهرة ويؤسّس لـ دولة مركّبة لا تحتكر القرار في يد مركز أمني واحد.
لهذا، حين يُطرح سؤال.. هل يمكن التفاوض مع حكومة الشرع للحصول على الفيدرالية؟
فالسؤال نفسه يُعرّي جوهر المشكلة؛ كيف يمكن لمجموعة مسلحة فاقدة للشرعية، لا تستند إلى الشرعية الدستورية ولا إلى التفويض الشعبي ولا إلى الاعتراف الدولي، أن تدخل أصلًا في مفاوضات تتعلق بـ إعادة تعريف شكل الدولة ووظائف السلطة؟
سلطة الأمر الواقع لا تمتلك الولاية القانونية على تقرير شكل الحكم. هي سلطة قامت على احتكار القوة ومصادرة المجال السياسي، وتحويل المجتمع إلى بيئة محكومة بـ اقتصاد الحرب والأجهزة الموازية وشبكات النفوذ غير الخاضعة للمساءلة.
أي مفاوضة معها حول الفيدرالية لا تعني إلا شيئين؛ إضفاء شرعية على غير شرعي، وشراء وهم سياسي لن يتحقق منه شيء.
الفيدرالية ليست تنازلًا ولا اتفاقًا محليًا، بل هي إعادة صياغة مركز أطراف ضمن بنية دولة حديثة تملك مؤسسات دستورية، قضاء مستقل، سلطة تشريعية منتخبة، سلطة تنفيذية خاضعة للمساءلة، سلطة محلية لا مركزية، نظام توزيع للثروات، صلاحيات واضحة بين المركز والولايات
كيف يمكن لسلطة لا تملك دستورًا ولا برلمانًا ولا حتى اعترافًا أن تتفاوض على بنية كهذه؟
هذا ليس تفاوضًا؛ هذا خداع سياسي.
لكي تصبح الفيدرالية مشروعًا واقعيًا، لا بد قبلها من تفكيك منظومة الأمر الواقع، سواء عبر انهيار دعمها الإقليمي، أو عبر انتقال سياسي يفرضه الداخل والخارج، أو عبر ضغط شعبي واسع يعيد فتح المجال السياسي. لا يمكن أن تبدأ معركة بناء الدولة بينما الحاكم هو صاحب شرعية السلاح لا شرعية القانون.
بعد سقوط هذا النموذج السلطوي، تبدأ المرحلة الأساسية: تأسيس هيئة حكم انتقالية تتصف بـ الحياد المؤسسي وتمتلك ولاية سياسية تخوّلها الإشراف على مرحلة إعادة التأسيس. هذه الهيئة تكون معترفًا بها ضمن إطار الشرعية الدولية، وقادرة على إطلاق مسار دستوري شامل لا يخضع لإكراه ولا إقصاء.
هناك، بين هيئة انتقالية شرعية وبيئة سياسية مفتوحة، يمكن للسوريين أن يناقشوا الفيدرالية بوصفها نظام حكم لا صفقة. يُنتخب مجلس تأسيسي يتولى صياغة دستور جديد يحدد شكل الدولة:
هل هي دولة اتحادية؟
هل تعتمد لامركزية سياسية أم لامركزية إدارية موسّعة؟
كم عدد الوحدات الاتحادية؟
كيف تُدار الموارد الطبيعية؟
ما هي حدود سلطة الحكومات المحلية؟
كيف تُبنى مؤسسات الأمن المحلية ضمن إطار الدولة الوطنية؟
كل ذلك لا يُحسم إلا عبر استفتاء شعبي يمنح الفيدرالية الشرعية النهائية. لأنه إذا لم يُصوّت عليها الشعب، تصبح تقسيمًا مقنّعًا لا اتحادًا دستوريًا.
وبعد الاستفتاء تبدأ عملية بناء الهياكل: برلمانات إقليمية، حكومات محلية منتخبة، قضاء اتحادي–محلي مترابط، نظام مالي واضح يمنع المركز من استنزاف الأطراف، ويمنع الأطراف من التحوّل إلى جزر مغلقة.
الفيدرالية ليست مشروع طائفة، ولا رد فعل على أزمة، بل هي إعادة هندسة الدولة لمنع تكرار الاستبداد مهما كان شكله أو اسمه. هي وسيلة لضمان توازن القوى بين المركز والأقاليم، وتحويل التعددية السورية من مصدر صراع إلى معادلة حوكمة.
لكن كل هذا يبدأ من نقطة واحدة:
إسقاط شرعية البندقية، واستعادة شرعية الدستور.
قبل ذلك، أي حديث عن الفيدرالية يبقى مجرّد وهم سياسي يتغيّر شكله، لكنه لا يبني وطنًا، ولا يصنع دولة، ولا يحمي مجتمعًا.
تنويه: الآراء الواردة في هذا المقال تعود إلى كاتبها ولا تعبّر بالضرورة عن موقف منصة رادار سوريا أو توجهاتها التحريرية.

ذكريات من المقابر المسيحية في حلب.. لن اغادر
العريضي {{ليس هذا هو قدر السوريين}}