المنطقة التي لا تشبه أحداً: الإدارة الذاتية وقسد بين معارك الاستنزاف ورهانات الحل السياسي

تنويه: الآراء الواردة في هذا المقال تعود إلى كاتبها ولا تعبّر بالضرورة عن موقف منصة رادار سوريا أو توجهاتها التحريرية.

وسط صخب المشهد السوري المتآكل بين استبداد النظام وتشرذم المعارضة، تقف منطقة شمال وشرق سوريا كتجربة سياسية وإدارية استثنائية، تحاول شق طريقها في حقل ألغام محلي ودولي. هي منطقة لا تشبه أحداً: لا تحمل إرث المركزية البعثية، ولا تقع تحت وصاية “الائتلاف” المتشظي، ولا تتورط في أجندات طائفية أو قومية. بل تنسج هوية جديدة، تعددية، تشاركية، قائمة على مشروع “الإدارة الذاتية” الذي وُلد من رحم الفوضى لكنه أخذ يتمأسس كواقع لا يمكن تجاهله.

الزيارة الأخيرة التي قمت بها إلى تلك المناطق من الداخل السوري، لم تكن مجرد رصد ميداني لواقع خدمي أو معيشي، بل محاولة لفهم البنية السياسية العميقة التي تحرك هذه التجربة، وفهم العوامل التي تهددها من الخارج والداخل. وعلى الرغم من الظروف القاسية، والقصف التركي شبه اليومي على محاور استراتيجية كجسر قره قوزاق وسد تشرين، والعقوبات الاقتصادية التي تشل الدورة الحياتية بفعل قانون قيصر، فإن المشهد هناك لا يمكن وصفه إلا بصمود تاريخي وإرادة مجتمعية عصية على الانكسار.

ولادة وسط الركام: من المجالس المحلية إلى الإدارة الذاتية

تعود جذور “الإدارة الذاتية الديمقراطية” إلى لحظة الفراغ الأمني والسياسي الذي خلفه تراجع النظام السوري عن مناطق شمال شرق البلاد مع بداية الثورة، وتحديداً منذ عام 2012. لم تكن الفكرة آنذاك مشروعاً كردياً خالصاً، بل رؤية بديلة لدولة منهارة، انخرطت فيها قوى عربية وكردية وسريانية وآشورية، على قاعدة بناء نموذج حكم لا مركزي، عادل، يشارك فيه الجميع دون إقصاء.

وفي 2014، جاءت لحظة التأسيس الأولى للمجالس التنفيذية في كوباني والجزيرة وعفرين، ثم توسعت لاحقاً إلى منبج والرقة ودير الزور، بعد طرد تنظيم داعش منها. لم يكن تشكيل هذه الإدارة مجرد أمر تنظيمي، بل بمثابة إعلان عن مشروع سياسي واجتماعي جديد، يرفض إرث الاستبداد من جهة، ويتحدى مشروع الإسلام السياسي والفصائلية العسكرية من جهة أخرى.

قسد: قوة غيرت معادلات الحرب والإرهاب

ترافق تأسيس الإدارة الذاتية مع بروز قوة عسكرية جديدة، تحمل طابعاً دفاعياً وشعبياً في آن: قوات سوريا الديمقراطية (قسد). هذه القوة، التي ضمت مقاتلين ومقاتلات من العرب والكرد والسريان، سرعان ما تحولت إلى رأس الحربة في مواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). من معركة كوباني إلى دير الزور، ومن تحرير الرقة إلى هزيمة التنظيم في الباغوز، كانت قسد الشريك الفعلي والفعال للتحالف الدولي بقيادة واشنطن.

لكن اللافت، أن قسد، وعلى الرغم من تضحياتها الكبيرة – التي تجاوزت 12 ألف شهيد – لم تحصل على الاعتراف السياسي والدبلوماسي الذي تستحقه. فالمجتمع الدولي، ورغم دعمه العسكري لها، بقي متردداً في الاعتراف بالإدارة التي نشأت في المناطق التي حررتها هذه القوات، بسبب حسابات إقليمية، وخصوصاً تركية.

تركيا وحروب الجغرافيا: من “درع الفرات” إلى “نبع السلام”

التهديد الأكبر الذي يواجه هذا المشروع يأتي من الشمال، وتحديداً من أنقرة. فقد شنت تركيا ثلاث عمليات عسكرية كبرى: “درع الفرات” (2016)، “غصن الزيتون” (2018) التي احتلت فيها عفرين، و”نبع السلام” (2019) التي سيطرت فيها على سري كانيه/رأس العين وتل أبيض. كانت هذه العمليات مزيجاً من الحروب الجيوسياسية والتطهير القومي. آلاف السكان تم تهجيرهم قسرياً، وعشرات الفصائل السورية الموالية لتركيا ارتكبت انتهاكات ممنهجة بحق المدنيين، دون محاسبة أو مساءلة.

القصف التركي المتكرر، الذي يطال البنية التحتية والخطوط الحيوية للطاقة والمياه، كما حصل مؤخراً في سد تشرين وجسر قره قوزاق، ليس فقط استهدافاً عسكرياً، بل هو محاولة لكسر إرادة المجتمعات المحلية، ودفعها نحو النزوح والانهيار. وهو قصف يجري غالباً تحت صمت دولي مطبق، لا يميز بين مدني وعسكري، ولا يعترف بشرعية صمود هؤلاء السكان.

لقاء الجنرال مظلوم عبدي: صوت العقل السياسي

خلال زيارتي، التقيت بقائد قوات سوريا الديمقراطية، الجنرال مظلوم عبدي، الذي يتمتع بكاريزما هادئة وعقلانية سياسية لافتة. في حديثه، لم يكن عبدي أسير لغة السلاح، بل ركّز على ضرورة الحل السياسي الشامل، ودمج كل القوى الوطنية، بما فيها قسد والإدارة الذاتية، في صياغة مستقبل سوريا.

أكد عبدي على ضرورة صياغة دستور جديد يعترف بالحقوق القومية للكرد، ويضمن التمثيل الحقيقي لمختلف المكونات، ويؤسس لدولة لامركزية تحفظ كرامة الإنسان السوري. وشدد على أن الشباب السوري، في الداخل والخارج، يجب أن يكونوا رأس حربة في عملية إعادة الإعمار، والتنمية، وملاحقة خلايا داعش النائمة، وإقامة نظام عدالة فعلي لمحاسبة المجرمين، لا نظام ثأر وانتقام.

بين “الائتلاف” والإقصاء السياسي: معارضة بلا مشروع

في مقابل هذا المشروع الوطني الناشئ، نجد معارضة رسمية، متمثلة بـ”الائتلاف الوطني السوري”، تعيش على هامش الأحداث. فهي لم تعترف يوماً بالإدارة الذاتية، بل سعت إلى إقصائها، وتحالف بعض أطرافها مع تركيا في مشاريع احتلال وقضم الأراضي. وفي الوقت الذي كان فيه مقاتلو قسد يواجهون داعش في الرقة، كانت فصائل المعارضة مشغولة بحرب مواقع في إدلب أو تخوض معارك وكالة ضد الكرد في عفرين.

النتيجة أن هذه المعارضة فقدت ما تبقى من شرعيتها الوطنية، وتحولت إلى أداة ضمن مشاريع إقليمية لا تهدف إلى إسقاط النظام بقدر ما تهدف إلى إعادة إنتاج نموذج سلطوي آخر، بوجه ديني أو قومي.

التحدي الاقتصادي والقانوني: قانون قيصر والمحرقة المعيشية

لا يمكن فهم تجربة الإدارة الذاتية دون إدراك السياق الاقتصادي الخانق الذي تعمل فيه. فإلى جانب التهديدات الأمنية، تواجه هذه المناطق حصاراً اقتصادياً مزدوجاً: من النظام السوري من جهة، ومن العقوبات الدولية – وعلى رأسها قانون قيصر – من جهة أخرى. هذه العقوبات، وإن كانت تهدف إلى معاقبة النظام، إلا أن تأثيرها الأكبر يقع على المدنيين في مناطق خارجة عن سيطرته.

الأسواق هناك تعاني من تضخم، وفقدان للسيولة، وندرة في المواد الأساسية. ومع ذلك، تعمل المجالس التنفيذية على تسيير مؤسسات التعليم، الصحة، دعم الزراعة، وتوفير الكهرباء، بما تيسر من موارد، وبكثير من روح المقاومة اليومية.

مسؤولية المجتمع الدولي: شراكة لا يمكن تجاهلها

لقد آن الأوان للمجتمع الدولي أن يعيد النظر في تعاطيه مع هذه التجربة. لم تعد الإدارة الذاتية “أمراً واقعاً” فقط، بل باتت ضرورة موضوعية ضمن أي حل سوري مستقبلي. يجب إشراكها في العملية الدستورية، ودعم مشاريعها التنموية، وفتح قنوات سياسية واقتصادية معها.

أما التغاضي عن التهديد التركي، والتغافل عن الخروقات اليومية التي تطال المدنيين، فهو تقصير سياسي وأخلاقي فادح. لا يمكن الحديث عن “استقرار” في سوريا دون ضمان حقوق شعوب هذه المنطقة، وإشراك ممثليها الحقيقيين في أي طاولة مفاوضات.

في كل مدينة دخلتها، وكل مؤسسة زرتها، كان سؤال المستقبل حاضراً في عيون الناس: هل سنُكافأ على صمودنا؟ هل العالم يسمع أصواتنا؟ وإذا كان الوطن يصنعه أبناؤه، فثمة دولة تصنع اليوم في الشمال السوري، دولة لا تشبه أحداً، لكنها تشبه ما نريد أن تكون عليه سوريا: حرة، عادلة، إنسانية

Exit mobile version