محليات

ملف المختطفات العلويات والانهيار القيمي في خطاب النخب: السبي بين النفي والتبرير

في وقتٍ يُفترض أن تسود فيه لغة العدالة والإنصاف في سوريا الجديدة، تُركت قضية المختطفات العلويات دون متابعة رسمية أو قضائية، في واحدة من أعمق الأزمات الأخلاقية التي كشفت هشاشة التفاهم الوطني وخطورة التسويات الإعلامية. هذه القضية التي تعود اليوم إلى الواجهة بعد تقرير رادار سوريا السابق حول الفتاة ميرا جلال ثابت، أصبحت مرآة صادمة لانحرافات خطاب النخبة الموالية والمعارضة على حد سواء.

لم يقتصر التجاهل على غياب الدولة عن فتح تحقيق معلن أو توجيه اتهامات، بل امتد ليشمل أصواتاً إعلامية بارزة لم تكتف بتشويه الحقيقة، بل مارست دور التبرير، والتهكّم، والتسخيف. الإعلامية الموالية للحكومة الجديدة آسيا هشام، التي تمثل خطاً متشدداً في تمرير سردية “السبي المزيف”، سخرت من الواقعة ومن عموم المطالبين بكشف مصير المختطفات.


كذلك فعل عمر مدنية، وهو ناشط سوري محسوب على تيار الإخوان المسلمين السوريين، معروف بقربه من الجماعات المسلحة المدعومة من أنقرة، إذ كرّس سلسلة منشورات للطعن في حقيقة السبي، معتبراً أن قضية ميرا “قصة حب درامية هاربة من الرفض الطائفي”.

هذه المحاولات لتأطير الجرائم ضمن منطق التهكّم والعلاقات الشخصية ليست إلا شكلاً من أشكال تبرير العنف المجتمعي وتطبيعه، وقد خلّفت نتائج كارثية على مستوى وعي الجمهور وثقافة المحاسبة. إذ استُخدمت منشورات آسـيا هشام في حملات مضادة لإسكات ضحايا حقيقيات وتبرئة المعتدين، فيما شكّلت تغريدات عمر مدنية مادة دعائية تم تداولها داخل مجموعات متطرفة على أنها “إقرار غير مباشر” من شخصية سنّية وناشطة بأن الخطف ليس جريمة بل “زواج شرعي”. هذا الاستخدام السام للخطاب لم يقتصر أثره على تبييض جرائم الخطف والتحجيب القسري، بل أوجد مناخاً عاماً معادياً للضحايا، حيث تحوّلت الشكوى إلى خيانة، والمطالبة بالحقيقة إلى حملة طائفية، والفعل الإجرامي إلى قصة حب ملهمة.

التدوينات والتهكمات هذه لم تقع في الفراغ، بل أصبحت جزءاً من سلسلة الأدوات التي تُستخدم اليوم لتقويض كل محاولة لفتح الملف على أسس قانونية ووطنية. والأسوأ، أنها ساهمت في خلق مناخ عام يشرعن الإفلات من العقاب، ويُطبع فكرة أن المرأة التي تُختطف ليست ضحية، بل شريك “في الحب أو السياسة أو الذنب”، بحسب زاوية الخطاب الطائفي المسيطر. لقد باتت هذه السرديات سبباً مباشراً في إحباط الأهالي، وتراجع أصوات التضامن، وتزايد عزلة النساء، في مشهد يؤسس لمرحلة أخطر من القتل الرمزي والاغتيال المعنوي.

نساء خائفات: روايات حيّة من الداخل

رادار سوريا تواصل مع عدد من الفتيات العلويات اللواتي أفدن، بشكل مباشر، عن خوف حقيقي ومتصاعد من مغادرة منازلهن أو حتى استخدام الإنترنت بشكل طبيعي، بعد تصاعد حملات التخوين والسخرية وشيطنة الضحايا على وسائل التواصل الاجتماعي. بعضهن لم يخرجن من منازلهن منذ أيام، وأخريات أغلقن حساباتهن الشخصية أو توقفن عن استخدام أسمائهن الحقيقية خوفاً من التبليغ أو الملاحقة أو حتى التهديد بالاغتصاب الرمزي أو العلني عبر منشورات تمتلئ بالتشفي والتبرير. إحداهن قالت لنا: “لسنا بأمان. حتى مجرد التفاعل مع منشور قد يعرّضنا لملاحقة أو سخرية أو ما هو أخطر.” وأضافت أخرى: “نخاف أن نصبح الخبر التالي، دون أن يهتم أحد.”

المخاوف ليست مجرد ردود فعل عاطفية، بل نتيجة مباشرة لتجارب حقيقية. فبعض الضحايا تعرضن للتشهير العلني واتهامات كاذبة، ووجَدن أنفسهن فجأة في قلب معركة سياسية يستخدم فيها جسد الأنثى كأداة للصراع والتفاوض. الفتيات يتحدثن عن بيئة اجتماعية أصبحت أكثر قسوة، وأكثر تطرفاً، حيث لا تُصدّق شهادتهن، ويُعاملن كطرف غير جدير بالشفقة، بل كعنصر “خارج عن الطائفة” أو “خارج عن السيطرة”، وكأنهن متهمات لا ضحايا.

إحدى الشهادات التي تلقيناها كانت لفتاة في السابعة عشرة من عمرها، قالت إنها لا تنام ليلاً منذ ظهور قصة ميرا جلال ثابت، لأنها “تشعر أنها التالية”، خصوصاً بعد أن استقبلت رسالة تهديد مباشرة على حسابها قيل لها فيها: “الدور الجاي إلك، رح نغطيك بالشرع.” الرسالة ليست استثناء، بل جزء من سلسلة تهديدات تُستخدم فيها اللغة الدينية لتبرير العنف الجنسي، وتُغطّى بألفاظ تعكس مفاهيم الغزو والغنيمة والسبي، في امتداد صريح لثقافة العنف التي مارستها الجماعات الجهادية بحق النساء الإيزيديات في العراق وسوريا قبل أعوام.

الشكوى لا تقتصر على الخوف الجسدي، بل تمتد إلى إحساس عميق بالخذلان والنبذ من خطاب إعلامي يجبر الضحايا على الصمت، ويضع اللوم عليهن بدل مساءلة من يتاجر بكرامتهن في السوق السوداء للتحالفات السياسية. بات من الواضح أن النساء، لا سيما العلويات منهن، يُسحبن قسرًا من فضاء المواطنة، ويُعاد تصنيفهن كأهداف رمزية يُتاح استباحتهن طالما أن الجهة المنفذة تنتمي لتحالف أقوى، أو تحظى برضا سلطة صامتة. وفي ظل هذا الانهيار، يصبح الصراخ خيانة، والنجاة معجزة.

أين الدولة؟
منذ انتشار التقرير الأول عن مأساة المختطفات، لم يصدر أي توضيح رسمي من النيابة العامة، ولا بيان من وزارة العدل، ولا حتى مؤشرات على تحرك لجنة تقصي حقائق مستقلة. وكأن القضية لا تعني أحدًا، رغم أنها تمسّ صميم الكرامة الوطنية وتطرح أسئلة محرجة حول قدرة مؤسسات الدولة على صون حقوق مواطنيها، خصوصاً من الفئات المهمّشة والمستضعفة.

أين هي السلطة القضائية من هذا الملف الذي بات علامة سوداء في سجل العدالة السورية؟ لماذا لم نسمع عن تكليف قضاة مختصين أو فتح ملف قضائي مستقل يشمل شهادات الأهالي وتحقيقات ميدانية؟ وهل أصبح تسييس العدالة مقدّماً على حماية الضحايا؟ أين هي لجنة التحقيق في قضايا الانتهاكات التي يُفترض أنها صمام الأمان في حالات كهذه؟ أم أن اختصاصها لا يشمل حين تكون الضحايا من فئة لا صوت لها؟

بل أين وزارة الإعلام، التي يفترض أن تقود عملية تقويم الخطاب العام ومراقبة الانزلاق نحو تسخيف الجرائم أو تسويقها كخيارات شخصية؟ كيف تُترك المنابر المفتوحة لإعلاميين مؤثرين يستخدمون نفوذهم لتسخيف القضية، والسخرية من المختطفات، بل وتحويل الضحية إلى متّهمة، والمتّهم إلى بطل رومانسي؟

ما نشهده ليس مجرد غياب إجراءات، بل انهيار كامل لمنظومة الاستجابة الأخلاقية والقانونية والإعلامية. الصمت الممنهج، والتواطؤ غير المعلن، والتجاهل المتكرر، تشكّل مجتمعةً مشهداً مؤلماً لانكشاف الغطاء عن هشاشة الدولة في الدفاع عن أضعف مواطنيها. وإذا كانت هذه الدولة عاجزة عن حماية النساء من الاختطاف، وعاجزة عن معاقبة الجناة أو حتى الاعتراف بالكارثة، فعن أي مشروع وطني نتحدث؟

رادار سوريا حصلت على قائمة بأسماء الضحايا في هذه القضية، وهي قائمة أولية جُمعت من نشطاء في المجتمع المدني، وتضم فتيات ونساء من مختلف المناطق السورية، تم توثيق حالاتهن استناداً إلى شهادات محلية ومعلومات ميدانية متقاطعة.

  1. شادية كامل العدل – مصياف
  2. حياة محمد النجار – حمص
  3. د. رشا العلي – حمص
  4. بشرى ياسين المفرج – جبلة
  5. دلع محمد محمود – طرطوس
  6. لبنى محسن حمود – طرطوس
  7. لانا محسن حمود – طرطوس
  8. حمزة حمود (شقيقهما) – طرطوس
  9. مايا علو – طرطوس
  10. خزامة نايف العبود – الموعة / طرطوس
  11. روان شعبان رسود – سلحب
  12. كارولين نحلي – السويداء
  13. لانا أحمد – اللاذقية
  14. هدى منصور – الزعفرانة الغربية / حمص
  15. ناديا عيسى رضوان – السفرقية / جبلة
  16. دعاء فؤاد عباس – سلحب
  17. نغم عيسى – خربة الحمام (قُتلت بعد خطفها)
  18. زينب نصر دياب – أصيلة / ريف مصياف
  19. هيفين محمود داوود – الأشرفية / حلب
  20. روعة يامن إسماعيل – عين غنام / جبلة
  21. رنيم أحمد زمزم – دوير الشيخ سعد / طرطوس
  22. أريج محمد حسن – الشيخ بدر / طرطوس
  23. ريم غانم – رويسة بسنادا / اللاذقية
  24. زينب بلول – وادي الدهب / حمص
  25. منال نصور – سقوبين / اللاذقية
  26. فاطمة العلي (16 سنة) – بيت عانا / جبلة
  27. زينب غدير الذكرة – قرية فديو / اللاذقية
  28. نور الهدى حسام قاسم – صنوبر / جبلة
  29. حلا سليمان – دير شميل
  30. مايا فارس – جبلة
  31. كاتيا جهاد قراقط – حينة / فقدت في عرطوز
  32. الطفلة سيما سليمان حسنو – القرداحة
  33. ليال ديوب (17 سنة) – القلوع / طرطوس
  34. هبة أيهم ناصر (14 سنة) – رأس شمرا
  35. زينب غدير الذكرة – الهنادي / اللاذقية
  36. زينب نصر دياب – حماة
  37. لانا أحمد – اللاذقية
  38. أريج محمد حسن – طرطوس
  39. روعة يامن إسماعيل – جبلة
  40. دعاء فؤاد عباس – سلحب
  41. بشرى ياسين المفرج – جبلة
  42. لبنى محسن حمود – طرطوس
  43. لانا محسن حمود – طرطوس
  44. حمزة حمود – طرطوس
  45. ريم غانم – اللاذقية
  46. نور الهدى حسام قاسم – جبلة
  47. سيما حسنو (14 سنة) – القرداحة

ملف المختطفات العلويات لم يعد مجرد قضية حقوقية أو إنسانية هامشية، بل تحوّل إلى اختبار علني وفاصل لمصداقية كل من يزعم تمثيل السوريين، سواء كان في موقع الحكم أو في صفوف المعارضة. إنه معيار حقيقي لفرز من يرفع شعارات المواطنة والعدالة ومن يتواطأ بالصمت أو التبرير عندما يكون الضحايا من نساء ينتمين إلى طائفة بعينها. من يدّعي تمثيل الدولة عليه أن يواجه هذا الملف علناً، ويضع حداً لحالة الإنكار المؤسساتي، ومن يدّعي تمثيل الثورة أو الشعب، لا يمكنه القفز فوق معاناة هؤلاء النسوة بذريعة المعركة الكبرى أو “العدو الأهم”.

التجاهل المؤسسي يقابله اليوم تحايل إعلامي ممنهج، يتوسل السخرية أو التبسيط أو قلب السرديات لتمرير خطاب ملوّث يهدف إلى تبييض الجماعات المتطرفة والمسلحة، وتلميع صورة الجهات المتورطة في الخطف والتحجيب القسري والممارسات التي لا تختلف عن السبي ولو تغيّر الاسم والشكل. في هذا السياق، يصبح الإعلام أحد أذرع التواطؤ، حين يتخلى عن مساءلة السلطة أو القوى المهيمنة، وينشغل بتشويه الضحية وتحويلها إلى عبء رمزي على جماعته.

إن تبرير هذه الوقائع أو تسخيفها، أو حتى التعامل معها كحوادث معزولة أو “خلافات شخصية”، هو في جوهره شكل من أشكال الشراكة مع منتهكي الكرامة الإنسانية. التواطؤ لا يعني فقط المشاركة في الجريمة، بل الصمت حين يكون الحديث واجباً أخلاقياً، أو الاختباء وراء المواقف الرمادية حين تكون الحقيقة واضحة كالشمس. سواء ارتدى الجاني زيًا رسميًا أو حمل راية دينية أو طائفية أو سياسية، فإن ما يجري هو اعتداء على نواة العقد الاجتماعي، وعلى جوهر فكرة الوطن ذاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

رادار سوريا