ضربات استراتيجية أم إعلان واقع جديد؟ إسرائيل ترسم خطوطها الحمراء داخل سوريا

في الساعات الأولى من صباح الثلاثاء، 2 نيسان 2025، نفّذت إسرائيل سلسلة غارات جوية دقيقة استهدفت منشآت عسكرية سورية في مواقع متفرقة، شملت مطار حماة العسكري، مطار T4 في ريف حمص، مركز البحوث العلمية في دمشق، بالإضافة إلى مواقع في ريف درعا الغربي. هذا التصعيد ليس الأول من نوعه، لكنه يأتي في ظرف سياسي وأمني غير مسبوق، يختلف جذريًا عن السياقات التي حكمت المشهد السوري في السنوات الماضية.

فمع تلاشي الوجود الإيراني من الجغرافيا السورية، وسقوط النظام السابق بقيادة بشار الأسد، باتت الخارطة السورية تعيد تشكيل نفسها في ضوء ترتيبات محلية داخلية تقودها السلطة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع، واصطفافات إقليمية أكثر تعقيدًا. في الوقت ذاته، تلوّح أنقرة بشكل مباشر بنيّتها إقامة قواعد عسكرية دائمة داخل سوريا، ما أثار مخاوف وتحرّكات مضادة من أطراف إقليمية، وعلى رأسها إسرائيل، التي ترى في التمدد التركي تهديدًا مستقبليًا لا يقل خطورة عن التمدد الإيراني سابقًا.

وفي الجنوب السوري، حيث تنتشر فصائل محلية وامتدادات أمنية وعشائرية متشعبة، يتقاطع هذا المشهد مع واقع جديد تحاول فيه السلطة المركزية في دمشق فرض استقرار نسبي، ولو عبر تفاهمات غير تقليدية. كل ذلك يطرح أسئلة جدّية حول أهداف الضربات الإسرائيلية: هل هي تصفية حسابات مؤجلة مع بقايا المنظومة السابقة؟ أم أنها تدخل في إطار مشروع أكبر لإعادة ضبط الجغرافيا السورية بما يخدم الأمن القومي الإسرائيلي ويُقيّد الطموحات التركية؟ وهل نشهد بداية تشكّل كيانات جديدة محلية في الجنوب، برعاية ضمنية أو تقاطع مصالح مع تل أبيب؟

لفهم هذا المشهد المتغير، طرحت رادار سوريا أسئلة تحليلية على ثلاث شخصيات سياسية وفكرية فاعلة: الكاتب والمحلل السياسي محمد هويدي، حقوقية والمحللة السياسية رشا الأحدب، والباحث ومدير شبكة الجيوستراتيجي للدراسات إبراهيم كابان.

محمد هويدي – كاتب ومحلل سياسي

توقيت الغارات الإسرائيلية الأخيرة، ونوعية الأهداف ومن بينها مركز البحوث العلمية، توحي بأنها تتجاوز مجرد ضربة تكتيكية.

برأيك، هل تسعى إسرائيل من خلال هذه العمليات إلى تصفية ما تبقى من النفوذ الإيراني والسلاح النوعي المرتبط بالنظام السابق، بالتوازي مع منع أي تموضع تركي على الأراضي السورية؟

وهل تسير إسرائيل باتجاه خلق كيان موالٍ أو على الأقل غير معادٍ لها في الجنوب السوري (درعا – السويداء) يضمن مصالحها الأمنية في ظل الفراغ الإقليمي القائم؟

🎙️لم تعد الضربات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا مجرّد رسائل نارية محدودة أو تصفية حسابات موضعية مع الشبح الإيراني في المنطقة. ثمّة تحوّل واضح في طبيعة الأهداف ونوعيتها، لا سيما مع استهداف مركز البحوث العلمية وT4 ومطار حماه، ما يشير إلى انتقال تل أبيب إلى مرحلة جديدة، جوهرها منع تموضع أي خصم استراتيجي على الأرض السورية. بالنسبة لإسرائيل، لا يقتصر القلق على النفوذ الإيراني فحسب، بل يتعدّاه إلى التموضع التركي، الذي بات يشكّل تهديداً مؤجّلاً، لكنه في نظرها حتميّ وخطِر على المدى البعيد، هذا التهديد يكتسب بعداً إضافياً لكونه يُمارس تحت غطاء تحالف دولي أو دور إقليمي مشروع، ما يمنحه شرعية رمزية قد تُصعّب مواجهته دبلوماسياً وأمنياً. من هنا، لا يستبعد أن تكون تل أبيب تعمل بهدوء على تشكيل بيئة محلية جنوبية، متماسكة أمنيّاً وغير معادية، تُسهم في ضبط الحدود من جهة، وتحدّ من أي تمدد تركي محتمل في المستقبل من جهة أخرى. الأمر يتعدّى المواجهة التقليدية، ليطال هندسة توازنات جديدة في الجنوب السوري، تضمن لإسرائيل حدوداً أقل اضطراباً، ومجالاً استراتيجياً آمناً في المدى المتوسط والبعيد.

إبراهيم كابان – باحث ومدير شبكة الجيوستراتيجي للدراسات

في ظل تلاشي النفوذ الإيراني داخل سوريا، ظهرت في المقابل نوايا تركية دعائية أو فعلية بإنشاء قواعد عسكرية في بعض المناطق السورية، وخاصة في العمق الحيوي لحكومة الشرع في حلب، حمص، وحماة.

هل ترى أن الضربات الإسرائيلية الأخيرة تمثل ردًا استباقيًا على محاولات التموضع التركي، خصوصًا في المناطق المتاخمة لمراكز القرار الجديد؟

وهل يمكن فهم ما حدث كجزء من صراع إقليمي غير معلن بين إسرائيل وتركيا على الأرض السورية، في ظل غياب قوى مركزية ضامنة للسيادة السورية؟

🎙️الضربات الإسرائيلية الأخيرة، رغم أنها كانت تستهدف تقليديًا البنية التحتية العسكرية المرتبطة بإيران وحزب الله في سوريا، يمكن تفسيرها في السياق الراهن كتحرّك استباقي متعدد الأبعاد. فمع القضاء على النفوذ الإيراني بعد سقوط نظام الأسد وبفعل الضغوط الدولية، وضربات العمق المتكررة، بات الفراغ الناشئ في بعض المناطق، لا سيما في العمق الحيوي السوري (حلب، حمص، حماة)، مغريًا لقوى إقليمية أخرى، وعلى رأسها تركيا، للتموضع أو توسيع نطاق وجودها.

من هذا المنظور، يمكن قراءة الضربات الإسرائيلية كمحاولة لمنع تشكل “مراكز ثقل جديدة” في الجغرافيا السورية تخرج عن التوازن التقليدي الذي كرّسته إسرائيل طوال سنوات الصراع. فإسرائيل تنظر بقلق لأي تموضع عسكري طويل الأمد، سواء كان إيرانيًا أو تركيًا، لا سيما إذا تم داخل مناطق يُعتقد أنها سترسم شكل سوريا الجديد سياسيًا وعسكريًا بعد الحرب.

كما أن حلب وحماة وحمص لا تمثل فقط نقاطًا استراتيجية على المستوى العسكري، بل هي مرتبطة أيضًا بإرث الدولة المركزية السورية. وبالتالي، فإن أي اختراق تركي لها قد يُقرأ كإعادة تشكيل للهندسة السيادية لسوريا، وهو ما قد تعتبره إسرائيل تهديدًا غير مباشر، لأنها تخشى من نشوء نظام بديل أكثر استقلالًا عن التوازنات الدولية، أو أكثر انخراطًا في محور إسلامي إقليمي قد يضم تركيا وقطر وبعض القوى المحلية.

نعم، يمكن النظر إلى التطورات الحالية على الأرض السورية كوجه من أوجه صراع إقليمي “بارد” بين تركيا وإسرائيل. هذا الصراع غير معلن، ويجري بأدوات غير مباشرة، لكنه يتغذى على واقع غياب الدولة السورية كفاعل سيادي جامع، مما يجعل الساحة السورية مكشوفة أمام مشاريع التوسع الإقليمي.

تركيا من جهتها تسعى لإعادة تعريف أمنها القومي بعمق يتجاوز الحدود، وتسوّق تموضعها العسكري في الشمال والوسط السوري باعتباره جزءًا من “ممر أمني” طويل الأمد يربط بين إدلب وشمال حلب وربما يصل إلى عمق الوسط. في المقابل، ترى إسرائيل أن هذا النفوذ التركي المتنامي قد يتحول إلى منصة تأثير إسلامي ـ سني، يخترق الجغرافيا السورية ويعيد التوازنات داخلها، وهو ما يُقلق المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.

بمعنى آخر، بينما تعاملت إسرائيل مع سوريا باعتبارها كانت ساحة لضبط النفوذ الإيراني، فهي الآن باتت تواجه تحديًا آخر: صعود تركي متدرج، قد لا يكون عدائيًا في الظاهر، لكنه يغيّر من ديناميكيات السلطة والنفوذ في قلب سوريا. هذا الصراع يزداد وضوحًا مع غياب أي مظلة دولية أو إقليمية ضامنة، مثلما كان الأمر في بداية الصراع السوري، حيث كانت روسيا والولايات المتحدة تلعبان دورًا ضابطًا نسبيًا.

رشا الأحدب – حقوقية والمحللة السياسية

الضربات التي طالت مواقع في درعا، تتقاطع مع تحركات ميدانية لفصائل معارضة لسلطة الرئيس أحمد الشرع، من بينها فصائل سلفية جهادية كـ”حراس الدين”، إضافة إلى مجموعات عسكرية كـ”أبو عمشة” وفرقة الحمزة (الحمزات)، وفصائل أخرى محسوبة على تركيا وتعمل خارج سلطة الشرع.

في ظل هذا المشهد، هل تعتقدين أن هذه العمليات تأتي ضمن تفاهم غير مباشر بين سلطة الشرع وإسرائيل لتصفية الخصوم الجهاديين والإسلاميين، وإعادة ترتيب البيئة الأمنية في الجنوب، حتى لو كان ذلك عبر ضربات جوية إسرائيلية محسوبة؟

وهل ترين في هذا السياق محاولة لتحميل هذه الفصائل مسؤولية جرائم في الساحل وغيره، لتبرير استئصالها إعلاميًا وميدانيًا؟

🎙️١- لا أعتقد بوجود أي تفاهم سواء مباشر أم غير مباشر بين حكومة الشرع و حكومة نتنياهو من أجل تصفية الخصوم الجهاديين والإسلاميين للشرع، فلقد كانت الضربات الإسرائيلية مركزة على عدة مناطق في سوريا ومنها مطار حماه (والتي أسفرت عن قتل ٣ مهندسين أتراك وسوريين) وقاعدة T4 الجوية و٣ مواقع أخرى منها مركز برزة للأبحاث العلمية بدمشق وغيرها من مستودعات الوقود والرادارات ومدارج الطائرات والبنى التحتية العسكرية وناقلات مخازن الأسلحة الثقيلة وتل جموع عسكري قرب حرش الجبيلية قرب مدينة نوى في درعا، حيث استشهد أكثر من ٩ شهداء من درعا مدنيين ما بين القصف الإسرائيلي والاشتباكات مع الجيش الإسرائيلي أثناء التوغل للجيش الإسرائيلي بالقرب من مدينة نوى وريف درعا الغربي.

وهذا القصف الجوي كان رسالة واضحة من حكومة نتنياهو إلى حكومة أردوغان وحكومة الشرع بعدم السماح بإعادة بناء أي أنظمة دفاع جوية تعيق تحرك الطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية، وتخوّف إسرائيل من استخدام تركيا للأراضي السورية لتهديد أمن إسرائيل مستقبلاً، حيث لا شك أن إسرائيل بدأت بالشعور بالقلق بعد الشروع بالبدء بتطوير اتفاقية دفاع مشتركة بين سوريا وتركيا تتيح لتركيا تأسيس نظام دفاع جوي وإمداد سوريا بـ S-400 إذا ما قبل الروس، وبالتالي تحاول إسرائيل قطع الطريق لأي محاولة برًا أو جوًا سواء بقصف أي بنية تحتية تُؤسّس لأنظمة دفاع جوية متطورة لسوريا أو بالتوغل العسكري الإسرائيلي في الأراضي السورية لتوسيع رقعة ومساحة المناطق العازلة لقطع الطريق لأي جماعات جهادية أو إرهابية متطرفة تنادي بتحرير القدس وتستخدمها تركيا لتهديد أمن واستقرار إسرائيل، وبالتالي منع أي تواجد عسكري في الجنوب السوري وضمان حرية كاملة لسلاح الجو الإسرائيلي في الأجواء السورية.

🎙️٢- لا شك أن حكومة إسرائيل هددت حكومة الشرع وفصائلها بعدم الاقتراب من الدروز، حيث يدخل في تركيبة الجيش الإسرائيلي الكثير من الدروز الإسرائيليين والعرب، ولذلك طالبت حكومة نتنياهو بمناطق منزوعة السلاح بدءًا من القنيطرة والسويداء وغيرها لحماية أمن وحدود إسرائيل وحماية الطائفة الدرزية. وبعد مجازر الساحل، زاد قلق إسرائيل من تهديد أمنها، وخصوصاً بعد المناداة بتحرير القدس من قبل بعض العناصر العسكرية المتشددة من المسجد الأموي، وأيضاً شعارات بتحرير القدس من مسجد في إدلب بوجود شخصية فلسطينية قامت بزيارة إلى سوريا.

وحيث أن مجازر الساحل، والتي قام بها عدد من العناصر العسكرية التابعة لفصائل أبو عمشى وغيرها من الجهاديين المتطرفين وحراس الدين وغيرهم من الإرهابيين التابعين لوزارة الدفاع السورية لحكومة الشرع، وحيث أتى في تقرير وكالة الاستخبارات الأمريكية أن إسرائيل تشكّ بنية هيئة تحرير الشام وفصائلها من حراس الدين اتجاه إسرائيل، وربما تشكل تهديداً لأمن إسرائيل، ولذلك إسرائيل تحاول حماية أمنها، خصوصاً بعد بدء التقارب التركي-السوري ومحاولة تركيا استخدام الأراضي السورية لشن الهجوم على إسرائيل حتى لو صرحت تركيا عكس ذلك.

وبالتالي، إسرائيل تحاول قطع أذرع تركيا في الأراضي السورية كما قطعت أذرع إيران سابقاً، ولكن هذا لا ينفي عدم رضى إسرائيل على حكومة الشرع وفصائلها الجهادية والفصائل الإسلامية الراديكالية الأخرى، والفصائل العسكرية الخاضعة لتركيا. لذلك، إسرائيل تحاول استباق الأحداث وحماية أمنها القومي وحماية حدودها.

التحليل الختامي

🎙️في سوريا ما بعد إيران، لم تعد الضربات الجوية مجرد أدوات عسكرية لتصفية نفوذ تقليدي، بل باتت تعبيرًا عن ديناميكيات إقليمية جديدة تتجاوز السياقات القديمة. ما حدث في 2 نيسان/أبريل 2025 ليس فقط استعراضًا للقوة الإسرائيلية، بل تذكير ضمني بأن الفراغات الجيوسياسية لا تبقى شاغرة طويلاً.

في ظل صعود حكومة مركزية جديدة في دمشق، ومحاولات أنقرة توسيع عمقها الاستراتيجي داخل الأراضي السورية، بدأت تظهر خطوط تماس غير مرئية بين مشاريع متضاربة. إسرائيل، التي اعتادت على إدارة المواجهة مع إيران عبر الضربات الوقائية، تجد نفسها الآن أمام تحدٍ مختلف: إعادة تعريف الأمن الإقليمي في بيئة سياسية متغيرة.

ما تكشفه الضربات الأخيرة، كما تشير إليه المواقف المجمعة في هذا التقرير، هو أن سوريا تتجه نحو مرحلة إعادة هيكلة أمنية قسرية، تُدار من الخارج أكثر مما تُنتج من الداخل. ومع غياب أي توازنات دولية ضامنة، قد تصبح البلاد ساحة مفتوحة لصراعات غير معلنة، يُعاد فيها رسم خرائط التأثير بقوة الجو، والصفقات الخلفية، وتوازنات القوة المؤقتة.

… تُركّز إسرائيل ضرباتها الآن ليس فقط على ما كان، بل على ما قد يكون. وفي ظل هذا التوازن الهش، تظل سوريا مختبرًا مفتوحًا لمعادلات الردع، والمصالح المؤقتة، وحدود القوة غير المعلنة.

Exit mobile version