العريضي: محاولة جديدة لإنقاذ المجرم..

إنها بالفعل، محاولة جديدة لإنقاذ تلك السكين التي غُرزت في خاصرة الثورة السورية منذ سنوات. محاولة جديدة لتنظيف الدماء عنها وإعادتها للعمل في سبيل إنهاء مهمتها قبل أن يعتريها الصدء. هذا الصدء المجبول بالإرهاب والإجرام، الذي استنفرت لأجله الدول، وجهّزت فرق إنعاش تضم مبعوثين ومدربين وسماسرة، علّهم ينعشون شرعيته الميتة، وينظفون ماضيه الملوّث بدماء الثورة السورية وثوارها، قبل أن يشحنوه كسلفه جواً ليكمل مسرحية البيع.

الإعلان الثلاثي المسرحي الهزيل لحل “الأزمة المفتعلة” في السويداء وملف الجنوب السوري عموماً، والذي أسموه أسموه زيفاً بخارطة طريق، إنما يشكّل محاولة جديدة بائسة لتلميع وتغليف هذا الطرد المسمى “بالجولاني” وإرساله لمبنى الأمم المتحدة، ليبيعهم ما تبقى من السيادة.

أي أزمة تلك التي يُرسم لأجلها خارطة طريق للحل طالما أن سلطة الإرهاب المتربعة على صدور السوريين هي السبب الرئيسي البنيوي الذي يشكل مصدر كافة الأزمات في سوريا وليس فقط السويداء؟ فعلاً من المستغرب أن الأطراف الفاعلة في الملف السوري، لا تزال مصرّة على توفير الدعم السياسي والدبلوماسي لزعيم منظمة إرهابية وصل إلى السلطة السياسية بشكل غير مشروع. لكن يُقال: متى عُرف السبب، بطُل العجب، فمن سبيبع الأرض بمن فيها، لا بد وأن يُحتفى به، لكنه سيكون في نظر المشترين وضيعاً، وكان وسيبقى في نظر الأرض ذاتها عميلاً.

إن اتفاقاً كهذا مبني على غض الطرف عن تاريخ مليء بالإرهاب للجولاني وعصابته، ولا يعيد الاعتبار لضحايا المجازر والاعتداءات التي استهدفت أبناء السويداء، إنما يفتقر للحد الأدنى من الشرعية الأخلاقية والسياسية والقانونية اللازمة لقيادة مسار الاستقرار، ليس في السويداء فقط، بل في سوريا كاملة. وهو بذات الوقت، يثير تساؤلات جسيمة حول نواياه ونتائجه المتوقعة على الأرض.

أولاً: التسليم بوحدة الأراضي السورية كقيمة دستورية لا يشكل صك براءة يعفي من المسؤولية تجاه الانتهاكات الجسيمة والجرائم الإرهابية التي ارتكبت بحق أبناء السويداء. ولا يجوز استغلال مراتب السيادة التي حولها الجولاني لسلعة في سوق دولية لفرض صياغات سياسية تهمّش مطالب الضحايا وأولوية المساءلة كشرط رئيسي للاستقرار. أما بخصوص المصالحة التي يتشدق بها هذا الاتفاق، فهي لا يمكن أن تتم مع إرهابيين يتحينون الفرصة للإبادة، ولا يمكن أن تتم بلا محاسبة واضحة وشفافة لكل من تلطخت يده بدماء الأبرياء في السويداء.

ثانياً: إن دعوة حكومة الإرهاب، المسماة زيفاً بالسلطة الانتقالية لقيادة هذا المسار، تشكل التباساً أخلاقياً وسياسياً وقانونياً، خاصة وأنه لم يتم تحييد مروجي العنف والمحرضين عليه، ومن ارتكبوا المجازر، الذين لا يزالون على رأس عملهم في هذه الحكومة. أي عدالة يجري الحديث عنها عندما يكون المجرم مستمراً في منصبه “الانتقالي”؟ إنه اتفاق لا يتعدى كونه تمييع للعدالة، بدون أي حيادية أو أساس موضوعي لتحقيق الإنصاف، ولن يمر هكذا اتفاق على دماء الشهداء من أبناء السويداء قطعاً.

ثالثاً: إن إدراج بند دعم إعادة الإعمار وربط التمويل بعودة المؤسسات دون أي شروط صارمة للمحاسبة الحقيقية والمساءلة، إنما يعيد إخضاع مآلات السويداء السياسية والاقتصادية إلى سلطة الإرهاب التي تلطخت يداها بالدماء. هذا الربط ليس سياسة للإصلاح وجبر الضرر، بل هو آلية خبيثة لإلحاق المصالح المحلية بدائرة مؤسسات مزيفة أثبتت أنها أبعد ما يكون عن إنصاف الضحايا. إنها وصاية اقتصادية حرفياً، تحوّل المعونات إلى وسيلة لفرض نوع جديد من السيطرة بعد ما خسرها الإرهابيون ومرتزقتهم في جغرافية السويداء.

رابعاً: أية وقاحة سياسية هذه التي تستثني السويداء وأهلها من موقع الصدارة في صياغة مصيرهم. إن سياسة كهذه لإعادة الدمج بلا أسس واضحة وأخلاقية، هي خرق لقواعد القانون الدولي وللمبادئ العرفية التي تتعلق بحق الشعوب والمجتمعات وأبناء الأرض في المشاركة بصياغة القرارات المرتبطة بوجودهم ومستقبلهم. ولن يمر أي مسار مزوّر باسم الإعادة للدولة من السويداء طالما أنه لا يوجد في سوريا دولة بل عصابة إرهاب في السلطة، وطالما أنه لا يحترم أحقية المجتمع في تقرير مصيره.

خامساً: إن أي صيغة سلام أو خارطة طريق تروّج لشرعنة زعيم جبهة النصرة التي لا تزال على قوائم الإرهاب، ومرتزقته من الإرهابيين التكفييرين القتلة، فهي في حقيقتها استبدال للعدالة بالتحايل السياسي. وإذا أرادت الدول الفاعلة في الملف السوري، التي تمتطي الجولاني لتسيير مصالحها في سوريا أن تشرعنه، فعليها أن تفعل ذلك بعيداً عن دماء الشهداء في السويداء، فما هذا الاتفاق إلا تعزيز للإفلات من العقاب، ومكافأة لهذا الإرهابي على تنفيذ مخططات دولية بإتقان وتفانٍ.

سادساً: الآليات المطروحة في الاتفاق، التي تتضمن نشر قوات أمنية وتشكيل مجالس محلية بقرار مركزي هو محاولة أخرى لفرض سلطة الإرهاب على أبناء السويداء سياسياً بعدما فشلت في إخضاعهم عسكرياً، وما لم يتم تحصيله في الميدان، لن يتم تحصيله في السياسة. ولن يكون في السويداء موطئ قدم لإرهابي يتبع لسلطة الإجرام، حتى لو دفعت السويداء ثمناً لذلك دماء أبنائها جميعاً. وعلى الدول التي تحاول إنقاذ هذا المجرم أن تتيقن من أن مفهوم الدولة المركزية سقط في السويداء وفي سوريا إلى غير رجعة، وإذا كانت مغرمة بهذا النموذج، فلتتفضل وتحيّد هذا الإرهابي عن السلطة ليتوحد السوريون على حكومة مركزية واحدة تحترم حقوق جميع المكونات، ولا تحصر دمشق بهوية واحدة.

سابعاً: لن يمر هذا الاتفاق على أنه حل لأزمة السويداء على أنها العثرة الوحيدة أمام “مشروع الدولة المتطورة والمتقدمة” التي يقوده الإرهابي، فما حدث في السويداء يتطابق مع ما حدث في الساحل، وما يحدث في شمال شرق سوريا. لذلك، نعود ونؤكد أن العدالة لا يمكن أن تكون مجتزأة أو انتقائية، وتحقيقها مرهون بتحييد هذه السلطة الإرهابية التي تشكل المصدر الأساسي لعدم الاستقرار، في الجنوب وفي الشمال والغرب والشرق.

ثامناً: يجسد هذا الاتفاق مناورة جديدة لتقديم قرابين الطاعة لاسرائيل التي ترى في هذا الإرهابي وعصابته خطراً استراتيجياً عليها، في الوقت الذي تحاول سلطة الإرهاب إظهار “الود المصطنع” تجاه السويداء للتقرّب من الرضى الاسرائيلي، لكنه لا يمكن أن يكون أساساً لاستقرار مستدام، سواء في الجنوب بشكل عام أو في السويداء بشكل خاص طالما أنه يعطي حقنة جديد من الشرعية لهذه العصابة.

إن أي نهج جاد لاستعادة الاستقرار في السويداء يجب أن يكون مرتبطاً بنهج جاد لاستعادة الاستقرار في سوريا عموماً، وهو مرتبط بشرط جوهري وحيد، وهو الإقرار بأن سوريا تقبع تحت حكم الإرهاب، وتحييد الجولاني وعصابته عن السلطة السياسية ومحاسبتهم عن جرائمهم الإرهابية، ثم دعم سلطة سياسية مدنية قادرة على جمع لم المكونات جميعها. أما أية اتفاقات أخرى تمنح شرعية لهذا الإرهابي، فهي من قبيل العبثية السياسية، واللعب على الوقت لتمرير المشاريع. هذه المشاريع التي ستعود على أصحابها بنتائج وخيمة، طالما أنها نُفّذت بأدوات وخيمة.

تنويه: الآراء الواردة في هذا المقال تعود إلى كاتبها ولا تعبّر بالضرورة عن موقف منصة رادار سوريا أو توجهاتها التحريرية.

author avatar
الدكتور يحيى العريضي - سياسي وأكاديمي سوري
يحيى العريضي، سياسي وأكاديمي سوري من مواليد عام 1954، يعد من أبرز الشخصيات السورية التي جمعت بين العمل الإعلامي والنشاط السياسي المعارض، متكئًا على خلفية أكاديمية رصينة وتجربة مؤسساتية طويلة داخل سوريا وخارجها. برز العريضي كصوت مستقل داخل هيئة التفاوض السورية التي أعيد تشكيلها في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، حيث تولى مهمة المتحدث الرسمي باسم الهيئة، كما شارك لاحقًا كعضو في اللجنة الدستورية الموسعة المنبثقة عن الأمم المتحدة بتاريخ 23 أيلول/سبتمبر 2019. عرف بمواقفه الحاسمة في مقاربة مستقبل سوريا السياسي، حيث أعلن صراحة معارضته لنظام بشار الأسد في مقابلة مع قناة العربية عقب مغادرته سوريا في أيار/مايو 2013، بعد أن اختبر عن قرب حدود وهم الإصلاح ضمن مؤسسات النظام. في لحظة حرجة من تاريخ سوريا، شارك العريضي في حزيران/يونيو 2011 ضمن لجنة رسمية لصياغة قانون الإعلام، كان النظام قد شكلها في محاولة لامتصاص ضغط الشارع. إلا أن مشاركته لم تطل، وسرعان ما تحوّل إلى أحد أبرز الأصوات النقدية لهذه البنية القمعية من خارج البلاد. يشغل العريضي سجلًا حافلًا في التعليم والعمل الإعلامي، فقد تولّى عمادة كلية الإعلام في جامعة دمشق بين عامي 2010 و2013، ودرّس في كل من كلية الإعلام وكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة ذاتها. كما أعدّ وقدم برامج عدة على شاشة التلفزيون السوري، وأدار لاحقًا المركز الإعلامي السوري في لندن. يحمل الدكتور العريضي درجة الدكتوراه في الإعلام من جامعة جورج تاون في واشنطن، وقد تخرج أيضًا من جامعة هارفارد، ما يعكس عمق تكوينه الأكاديمي الذي ساعده في صقل خطابه السياسي والإعلامي لاحقًا. يقيم العريضي حاليًا بين فرنسا وسوريا، ويواصل نشاطه السياسي والفكري في إطار دعم التحول الديمقراطي في سوريا، مع الحفاظ على استقلاليته عن الأجسام السياسية التقليدية.
Exit mobile version